مع انطلاق معرض التحول الصناعي في الرياض للمرة الأولى، تتجه الأنظار إلى هذا الحدث بوصفه فرصة إستراتيجية لتحول القطاع الصناعي في المملكة نحو استخدام تقنيات الثورة الصناعية الرابعة؛ كالأتمتة والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء الصناعية، ولا شك أن هذا الحدث وما تقدمه حكومتنا من اهتمام ورعاية للقطاع الصناعي يحفزان المسؤولين ليس لمواكبة التطور فحسب، بل للمبادرة إلى تهيئة بيئة صناعية تنافسية قادرة على الريادة. لقد جعلت رؤية 2030 من القطاع الصناعي محوراً رئيساً لتنويع الاقتصاد الوطني، وأطلقت مبادرات رائدة مثل الإستراتيجية الوطنية للصناعة، وبرنامج المصانع المستقبلية الذي يطمح لتحويل آلاف المصانع إلى منشآت متقدمة رقمياً، ومبادرات الاستدامة والطاقة النظيفة مثل السعودية الخضراء وهدف الحياد الصفري للكربون، إلى جانب استثمارات كبيرة في التقنيات المتقدمة عبر شركات مثل "آلات" للتصنيع المتقدم، و"هيوماين" في تقنيات الذكاء الاصطناعي. هذه الركائز مجتمعة تشكل قاعدة صلبة لتمكين المملكة من أن تكون منصة إقليمية لتطبيق الثورة الصناعية الرابعة التي تبدأ بالأتمتة ونظم التحكم الذكية والروبوتات والصيانة التنبؤية وتحليل البيانات الضخمة والترابط بين الآلات عبر إنترنت الأشياء الصناعية. ودائماً نجد في التجارب العالمية السابقة لمثل هذه المعارض ما يمكن الاستفادة منه والبناء عليه؛ حيث تظهر تجربة سنغافورة في استضافة معرض التحول الصناعي أهمية بناء منظومة متكاملة تجمع الحكومة وقطاع الصناعة والجامعات تحت منصة واحدة تدعم التحول نحو الصناعة 4.0؛ فقد ركزت سنغافورة على توفير بيئة تعليمية وتطبيقية عبر ورش عمل تفاعلية وأنظمة محاكاة، وبرامج تدريبية، وشراكات إستراتيجية مع الشركات العالمية، ما جعل المعرض جزءاً من إستراتيجية وطنية طويلة المدى لتسريع الابتكار الصناعي. ويمكن للمملكة الاستفادة من هذا النموذج عبر تعزيز الشراكات بين الجهات الحكومية والمصانع والجامعات، وتخصيص مناطق عرض تطبيقية للمصانع الذكية، وربط المعرض بمبادرات رؤية 2030 الصناعية. أما تجربة المكسيك فتميزت بقدرتها على جعل المعرض منصة مفتوحة للمصانع الصغيرة والمتوسطة، وإشراك المدن الصناعية، وتحويل الحدث إلى بوابة لجذب الاستثمارات الصناعية واللوجستية. وقد ركزت المكسيك على دمج التقنيات الحديثة مع دعم الشركات الناشئة، وعقد لقاءات أعمال موجهة، وإبراز جاهزيتها في سلاسل الإمداد. ويمكن الاستفادة من تجربة المكسيك بالتوجيه نحو تمكين المصنعين المحليين، وإطلاق برامج تمويل وتحفيز خلال الفعالية، وتخصيص مساحات لجذب الاستثمار الصناعي، بما يعزز مكانة المملكة كمركز صناعي ولوجستي إقليمي رائد. وبناء على ما تقدم أود التأكيد على أن تحقيق التحول الصناعي يكون من خلال، أولاً: الانتقال من حالة السعي للحاق بما تحقق عالمياً إلى بناء بيئة تصنع الفرق وتنافس بقدرات محلية؛ فلا ينبغي استنزاف الجهود لمحاولة اللحاق بركب التطور الصناعي المتسارع، فهذه مطاردة لا تنتهي وقد تستهلك الموارد دون مردود حقيقي. إنما الأسلم والأجدى هو البناء على ما تم التوصل إليه بالفعل؛ فكل ابتكار سابق يمثل قاعدة صلبة يمكن الارتقاء منها، وكل تجربة مختزنة تختصر سنوات من المحاولة والخطأ. إن تبنّي مبدأ البناء فوق المنجزات لا يختصر الوقت فحسب، بل يتيح توجيه الطاقات نحو الإبداع والإضافة النوعية بدلاً من إعادة إنتاج ما هو موجود. وبهذه الرؤية تغدو الصناعة أكثر قدرة على المنافسة والابتكار. ثانياً: تنمية الكادر البشري الذي يبقى دائماً هو الأساس في أي تحول صناعي، ولذلك ينبغي التركيز على دعم التخصصات الهندسية والتقنية المرتبطة بالصناعة 4.0، وتطوير برامج التدريب المهني المتقدم داخل المصانع، وإعداد جيل قادر على إدارة الروبوتات وتحليل البيانات وحماية الأنظمة الصناعية، وإدخال مهارات الذكاء الاصطناعي والتحكم الآلي ضمن مناهج التعليم الفني والجامعي. فالمملكة لن تقود الثورة الصناعية الرابعة إلا بتمكين كوادرها من التميز والابتكار. ثالثاً: إن أكبر عائق أمام تبني تقنيات الصناعة 4.0 هو التكلفة المالية، خاصة بالنسبة للمصانع المتوسطة والصغيرة، وتشمل هذه التكاليف شراء الأنظمة الرقمية والروبوتات، وتحديث خطوط الإنتاج، وتدريب العاملين على مهارات متقدمة، وتكاليف التحول الرقمي وربط المصانع بالأنظمة المركزية. ولأن المصانع لا تستطيع تحمل هذه الأعباء بمفردها، يصبح دور الحكومة جوهرياً في تسريع التحول، من خلال الدعم الحكومي عبر منح مالية مباشرة لدعم التحول الرقمي، وقروض ميسرة ومرنة لتقنيات الأتمتة، وبرامج دعم تستهدف خفض تكلفة تبني التقنية، وتحفيز الصادرات لخلق قدرة مالية تمكّن المصانع من التحديث المستمر. عندها يصبح التحول إلى الصناعة 4.0 ليس خياراً مكلفاً، بل طريقاً مُمكناً. أخيراً، إن الريادة في الثورة الصناعية الرابعة تقوم على الإنسان والمعرفة والتقنية، ومع الإرادة الوطنية التي تمثلها رؤية 2030، والقاعدة الصناعية التي تتوسع بوتيرة سريعة، فإن المملكة - بإذن الله قادرة على أن تصبح نموذجاً إقليمياً في التحول الصناعي.