القانون ليس نقيضاً للتنمية، بل هو شرط موضوعي لنجاحها وصيانتها، وبغياب القواعد المنظمة لها تتبدد العدالة وتتراجع الثقة فيها، وهما الركيزتان اللتان لا تقوم تنمية بدونهما؛ ولذلك فإن الدولة الحديثة، حين تضع خططها التنموية، تنظر إلى القانون بوصفه شريكاً في التصميم لا مجرد أداة للضبط؛ فكما أن التنمية تسعى إلى تحريك عجلة الاقتصاد، وتوسيع نطاق الخدمات، وتحسين جودة الحياة، فإن القانون هو الأداة التي تضمن أن تكون تلك الحركة منضبطة، ومتزنة، وعدالة توزيعها مؤسسية؛ فكل مشروع تنموي، مهما بلغ طموحه، يحتاج إلى مظلة قانونية تضمن له الانضباط والاتساق مع المصلحة العامة، كما يحتاج كل تطور تشريعي إلى أرض تنموية خصبة تكشف فعاليته وتختبر أثره على أرض الواقع؛ ومن هذا المنطلق تبرز التحولات الكبرى التي يشهدها وطننا الغالي، حيث لم يعد بالإمكان الحديث عن التنمية بمعزل عن منظومتها التشريعية، فالعلاقة بينهما لم تعد علاقة تقاطع عابر، بل أصبحت تقاطعا عضويا يحدد اتجاه الحركة التنموية ويحفظ مقوماتها ويصون استدامتها في آن واحد. ومن هنا جاء تميز التجربة السعودية الفريدة في العقد الأخير، إذ اندمج التشريع بالتخطيط الاقتصادي في نسيج واحد، فحين أطلقت الدولة -رعاها الله- برامج التحول الوطني ومبادرات ومشاريع رؤية الوطن الطموحة، لم يكن البناء الاقتصادي والتنموي مجرد اندفاع نحو الاستثمار والخصخصة، بل كان مترافقاً مع بناء تشريعي متين يعيد تعريف العلاقة بين الفرد والدولة، وبين السوق والمجتمع، وبين المستثمر والمستضيف، وفق قوانين حديثة وتجارب دولية معتبرة؛ فأضحت القوانين تسن لتواكب الرؤية التنموية لا لتلحق بها، هذا الاندماج يتجلى من خلال إقرار العديد من التشريعات الجديدة وتحديث القائم منها في قطاعات حيوية وذات بعد اقتصادي، ويتبدى ذلك مثلاً في قوانين الاستثمار، والتخصيص، والتعدين، والعقار، والعمل، والشركات، والمنافسة، وما إلى ذلك؛ تلك التحولات التشريعية الفرعية لم تكن عملاً إدارياً بحتاً، بل ترجمة لوعي تنموي ورؤية متفردة ترى أن استدامة النمو تقتضي بيئة قانونية متكاملة وعادلة وشفافة، وتتميز بالمحفزات الاستثمارية، وتمنع الاحتكار وتحمي المستهلك والمستثمر في آن واحد؛ وهكذا أصبح القانون أداة لرفع كفاءة التنمية نفسها، لا إطاراً يقيدها؛ وفي المقابل، فرضت التنمية المتسارعة على المنظومة التشريعية أن تتسم بالمرونة والقدرة على التحديث المستمر، فالقوانين الجامدة تعيق التجدد، والأنظمة غير المواكبة للتحول تخلق فجوات في التنفيذ والمساءلة واستقرار المراكز القانونية؛ لذلك تبنت المملكة نهج المراجعة التشريعية الدورية، إدراكاً منها بأن تطور الأنظمة لا يقل أهمية عن التطور الاقتصادي، وأن الرؤية الشاملة لا تكتمل إلا بتكامل مرونة البنية القانونية مع حركة التنمية العمودية والأفقية. إن تقاطع التنمية مع القانون هو في جوهره تقاطع بين الإرادة والطموح، وبين النمو والتنظيم، وبين الفعل والانضباط، بحيث لا تكون القوانين عائقاً أمام التقدم، ولا يكون التقدم مبرراً لتجاوز القانون؛ فالتنمية تحتاج إلى القانون كي لا تتحول إلى فوضى، والقانون يحتاج إلى التنمية كي لا يتحول إلى جمود؛ والتنمية التي لا يضبطها القانون قد تنفلت، والقانون الذي لا يستوعب ضرورات التنمية قد يتكلس، وبين هذين الحدين، تتجلى رؤية قيادتنا الحكيمة -أعزها الله- في العمل على رسم هذا التوازن الدقيق كي تولد نهضة مستدامة تقوم على منطق المصلحة العامة ومبدأ العدالة الشاملة؛ ولهذا نقول إن تقاطع التنمية مع القانون هو التقاء الوعي القانوني بروح التنمية النوعية في سبيل بناء دولة عصرية في تشريعاتها، متزنة في مؤسساتها، طموحة في رؤيتها، راسخة في قيمها.