منذ أن بدأ الإنسان يكتشف العالم بعينيه ويده وقلبه، كانت القصة هي الطريقة الأولى لفهم الحياة. قبل اللغة المكتوبة، وقبل المسرح والرواية والسينما، وقف الإنسان أمام النار يروي ما رآه وما عاشه. هذه البدايات البسيطة لم تكن مجرد حكايات للتسلية، بل كانت أول أسلوب للتواصل، وأول وسيلة لحفظ التجارب، وأول محاولة لتفسير الوجود. من هنا يمكن القول إن القصة هي أصل الحكاية؛ بل هي الأصل الذي تفرّعت منه كل أشكال التعبير الإبداعي لاحقاً. ولهذا انتشرت مقولة إن: «الإنسان كائن قصصي بطبيعته» فكل لحظة يعيشها، كل موقف يتذكره، وكل معنى يحاول تفسيره.. ينقله على شكل قصة. حتى الطفل قبل أن يتعلم الكلام، يفهم العالم من خلال تسلسل الأحداث: سقوط اللعبة → بكاء → حضن الأم. بداية → حدث → نهاية. هذه البنية القصصية ليست خياراً، بل نظام تفكير. ولهذا فإن الحكاية ليست شيئاً نكتسبه، بل شيئاً يسكن داخلنا منذ البداية. ومن هنا جاء تأثير القصة على الكتابة لاحقاً: فجميع الفنون السردية تحاول استعادة هذا الشعور البدائي الأول: الرغبة في أن نفهم ونُفهم. فالرواية مثلاً: مهما تشعبت تقنياتُها واتسعت عوالمُها، تبقى مبنية على القصة، قد تتغير الأساليب بين الواقعية والرمزية والسريالية، لكن جوهر النص دائماً قصة: شخصية تواجه حدثاً، وتنتهي إلى تحول أو وعي أو خسارة أو انتصار. حتى تلك الروايات التي تبدو بلا أحداث واضحة، تحمل داخلياً قصة شعورية أو قصة فكرية. ولذلك فإن الرواية في جوهرها ليست سوى امتداد لتلك الحكايات الأولى التي رواها الإنسان قبل آلاف السنين، لكنها اليوم تُقدَّم بلغة أكثر عمقاً وبناء سردي أكثر احترافاً. أما في الدراما، فتتضاعف أهمية القصة، حيث إن المشاهد لا يتابع اللغة بقدر ما يتابع تحولات الشخصيات، وتصاعد الأحداث، ولحظات الصراع، والمنعطفات التي تغيّر مسار الحكاية. أي مشهد -مهما كان جمال الحوار- يصبح بلا قيمة إذا لم يكن خادماً للقصة. القصة هنا ليست فقط تسلسلاً زمنياً، بل هي: دافع الشخصية/ رغبتها/ ما يعيقها/ اللحظة التي تسقط فيها/ اللحظة التي تنهض/ النهاية التي تصل إليها. كل هذه العناصر تُبنى على القصة كأساس لا يمكن تجاوزه. أما في السينما، فإن القصة هنا تتحول حكاية تتجسد بصرياً، حيث إن السينما بنت القصة الأولى، لكنها أعادت صياغتها بلغة جديدة: لغة الصورة. هنا تصبح القصة أكثر قوة لأنها تُرى وتُسمع وتُحسّ، فالسيناريست يبدأ دائماً من سؤال واحد: ما القصة؟ إن لم تكن القصة قوية، لن ينقذها الحوار ولا الإخراج ولا الموسيقى، جميع عناصر الفيلم تجتمع فقط لخدمة هذا الأصل: القصة. حتى الأفلام التي تعتمد على المؤثرات والإبهار البصري، تحتاج إلى قصة تحمل المشاهد من المشهد الأول إلى آخر لقطة.