تتعامل المملكة مع التحولات الإقليمية والدولية من موقع الدولة التي لا تبني سياستها على ردود الفعل، بل على ثوابت صلبة تشكلت عبر عقود، وتحولت اليوم إلى منظومة فكرية وسياسية تعرّف موقع الرياض في العالم، لقد اختارت المملكة منذ زمن طويل أن تكون دولة اتزان واستقرار، تقود من موقع المبادرة لا من موقع التردد، وتبني حضورها في الإقليم على أسس تتجاوز اللحظة السياسية إلى رؤية تشمل مصالح الشعوب وحاجاتها الطويلة المدى. وفي قلب هذه الرؤية يتجسد الموقف السعودي من القضية الفلسطينية الذي لم يخضع لمقايضات، ولم يتبدل بتبدل الإدارات الأميركية ولا بتغير ميزان القوى في الشرق الأوسط. فالمملكة لم تنظر يوماً إلى القضية الفلسطينية كملف قابل للتفاوض من أجل مكاسب سياسية، بل كقضية تمس جوهر الاستقرار الإقليمي، وكمفتاح رئيس لأي منظومة أمن وسلام تراد لها أن تعيش أطول من لحظة التوقيع. ولأن المملكة دولة تعرف وزنها، وتعي قدرتها على تشكيل موازين القوى، فإنها لم تتعامل مع ضغوط التطبيع بوصفها فرصة ظرفية، بل باعتبارها امتحاناً لقدرة الإقليم على إنتاج سلام عادل، فحماية أمن المنطقة لا تأتي عبر تجاوز الحقوق، ولا تأتي عبر اتفاقيات لا تعالج جذور الأزمات، بل عبر حلول تمتلك الشرعية السياسية والأخلاقية، وتضمن للشعوب حقوقها الطبيعية، وهذا ما جعل المملكة الدولة الأكثر ثباتاً في موقفها: لا سلام بلا دولة فلسطينية مستقلة، ولا اتفاق سياسي دون حق الفلسطينيين في حدود 1967 وعاصمتها القدسالشرقية. الرياض تصون الحق الفلسطيني في قلب التوازنات الجديدة للشرق الأوسط وفي زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن، تجسد هذا الثبات مرة أخرى أمام الإدارة الأميركية مباشرة. فالعلاقة بين الرياضوواشنطن علاقة استراتيجية عميقة، وهي شراكة تدار من موقع المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، ولذا ذهب ولي العهد إلى البيت الأبيض وهو يحمل موقفاً سعودياً واضحاً: السلام ليس شكلاً سياسياً، بل مضمون عادل، ولا يمكن لأي تسوية أن تتجاوز حق الفلسطينيين. وكانت هذه الرسالة امتداداً لنهج المملكة في إدارة الملفات الكبرى: وضوح في المبدأ، صلابة في القرار، ورؤية تتجاوز اللحظة إلى المستقبل. إن تقرير "أكسيوس" الذي كشف تفاصيل محادثات ولي العهد مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب لم يظهر فقط رفض السعودية لخطوات التطبيع السريعة، بل كشف أيضاً عن طبيعة الدور الجديد الذي تؤديه المملكة في المنطقة: دور الدولة التي تقول "لا" حين يجب قولها، والتي لا تسمح بتحويل مصالح الشعوب إلى أوراق سياسية. إن المملكة اليوم هي الطرف الأكثر تأثيراً في رسم خطوط الاستقرار الإقليمي، ليس لأنها دولة كبرى فقط، بل لأنها تحمل مشروعاً سياسياً يعيد الاعتبار للحقوق الإنسانية، ويضع الأمن الإقليمي فوق المصالح الضيقة. وبهذا الثبات، تواصل المملكة تثبيت معادلة جديدة في الشرق الأوسط: لا استقرار بلا فلسطين، ولا مستقبل بلا عدالة، ولا دوراً إقليمياً بلا مسؤولية تاريخية. وهذه هي القاعدة التي انطلق منها ولي العهد في واشنطن، ليعيد التأكيد على أن المملكة ليست دولة تنتظر ما يقرره الآخرون، بل دولة تحدد المسار وتكتب قواعد اللعبة السياسية. تستند المملكة في رؤيتها تجاه القضية الفلسطينية إلى قناعة راسخة مفادها أن الشرق الأوسط لا يمكن أن ينعم بالاستقرار دون معالجة عادلة لجذور النزاع العربي – الإسرائيلي. هذه ليست قناعة سياسية عابرة، بل هي مبدأ راسخ حافظت عليه منذ عقود، وأعادت تثبيته في كل المحطات المفصلية التي مرت بها المنطقة، وتدرك الرياض أن تجاوز ملف فلسطين هو الطريق الأقصر نحو عدم الاستقرار في الإقليم، وأن أي محاولة لبناء ترتيبات أمنية دون حقوق الشعب الفلسطيني ليست سوى وصفة لإطالة عمر الصراع. ولذلك، حين دخل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى البيت الأبيض، كان يحمل هذا المبدأ بوصفه حجر الأساس في كل حوار مع واشنطن، ليست القضية بالنسبة للمملكة ملفاً عربياً فقط، بل مسؤولية أخلاقية وسياسية تشكل هويتها الإقليمية، وهذا ما جعل موقف المملكة من التطبيع موقفاً ثابتاً: لا يمكن أن توافق من خلاله على أي خطوة سياسية لا تتضمن الاعتراف الكامل بفلسطين دولة مستقلة ذات سيادة. وكشف تقرير "أكسيوس" أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب حاول خلال لقائه بولي العهد دفع الرياض نحو الانضمام إلى اتفاقيات السلام، إلا أن الأمير محمد بن سلمان رفض الطلب بشكل واضح، مؤكداً أن المملكة لا يمكن أن تتحرك في مسار التطبيع من دون قيام دولة فلسطينية مستقلة، كان ذلك الموقف تجسيداً لنموذج القيادة السعودية، قيادة تعرف متى تقول "نعم" ومتى تقول "لا"، وتدرك أن وزن المملكة السياسي يسمح لها باتخاذ مواقف حازمة دون الخوف من الضغوط. وقد وصف مسؤولان أميركيان ولي العهد بأنه "رجل قوي"، رجل يملك قوة الرؤية وقدرة الدفاع عن موقف بلاده دون تردد. الموقف السعودي يحول الضغوط الأميركية إلى فرصة لصياغة سلام أكثر عدالة زيارة ولي العهد إلى واشنطن كانت مناسبة لإعادة رسم طبيعة العلاقة بين البلدين، فالمملكة ليست دولة تبحث عن اعتراف أو حماية، بل دولة تملك استقلال قرارها، وتعرف أن قوة الاقتصاد السعودي ودوره في أسواق الطاقة والملفات الإقليمية يمنحانها وزناً تفاوضياً لا يمكن تجاوزه. ولذا، حمل ولي العهد رسالة واضحة، السعودية شريك قوي، لكنها ليست تابعاً، وهي دولة ذات مبدأ لا تُقايض حقوق الشعوب بالمكاسب السياسية. وفي المؤتمر الصحافي بالبيت الأبيض، أعاد ولي العهد التأكيد على رؤية المملكة: السلام الحقيقي يبدأ من الحقوق، وليس من الاتفاقيات الشكلية. تؤمن المملكة بأن أي سلام مبني على إجراءات شكلية سيبقى هشاً وغير قادر على إنتاج استقرار طويل الأمد. لذلك، لم تقبل الرياض بفكرة "التطبيع السريع"، ولم تقبل بتحويل الملف الفلسطيني إلى ورقة سياسية يمكن تجاوزها، فالاتفاقيات التي لا تتضمن ضمانات سياسية حقيقية للفلسطينيين لن تنتج سلاماً، بل ستؤدي إلى المزيد من الانقسامات والاحتقان. ولهذا، ربطت المملكة كل مسارات التعاون الإقليمي بمبدأ وحيد: حل الدولتين أولاً، وبعد ذلك يمكن بناء ترتيبات سياسية أوسع. وبفضل ثبات موقفها شكلت المملكة وضعاً مركزياً في أي مسار سياسي يخص المنطقة، لم يعد معه بالإمكان تجاهلها، لأن المملكة هي القوة الأكثر تأثيراً في الإقليم . وهذا ما جعل الموقف السعودي يتحول من "وجهة نظر" إلى "شرط دولي"، بحيث باتت عواصم القرار العالمية تدرك أن أي تسوية لا تحترم موقف الرياض ستكون تسوية غير قابلة للحياة. وفي هذا الإطار، تظهر المملكة اليوم كقوة إقليمية تملك القدرة على فرض أولوياتها السياسية، وعلى إعادة صياغة ملامح المستقبل في المنطقة. إن رفض ولي العهد لطلب ترمب لم يكن مجرد موقف سياسي، بل إعلان أن المملكة دولة تملك قرارها، وأن الرياض لم تعد تنتظر ما ستقدمه القوى الكبرى، بل هي التي تحدد جدول الأعمال الإقليمي. وبهذا، يصبح الموقف السعودي نموذجاً جديداً في العالم العربي، قيادة تقول الحقيقة كما هي، وتدافع عن الحق دون مساومات، وتؤسس لدور سياسي طويل المدى. لم يكن تقرير "أكسيوس" مجرد تسريب سياسي، بل كان انعكاساً لدور سعودي جديد يتجاوز اللحظة، ويعيد صياغة منظومة السلام في الشرق الأوسط، لقد أثبتت المملكة أن الاستقرار الحقيقي لا يصنعه التجاوز والضغط، بل تصنعه العدالة والحقوق، وأن فلسطين ليست ملفاً قابلاً للإغلاق بل محور لكل معادلات المنطقة. وبموقفها، أعادت المملكة تعريف معنى القيادة السياسية، وأثبتت أن الشرق الأوسط لا يمكن أن يتحرك نحو المستقبل دون رؤية عربية واضحة تقودها الرياض بثبات وقوة.