في الطريف، حيث يختبر الحجر قدرة الروح على البقاء، وحيث تتقاطع ظلال الماضي مع خطوات الحاضر، انطلقت اليوم فعاليات برنامج «هَل القصور» ضمن موسم الدرعية 25 / 26، ليعيد إلى قصور الأئمة والأمراء نبضها الأول، وتفتح أبوابها للمرة الأولى أمام الزائر كما لو أنها تفتح بوابة لطبقات الزمن المتراكمة. ففي حيّ الطريف، المسجل على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، ليس مجرد مبانٍ من طين نجدي؛ إنه نص معماري طويل، كُتب على ضفاف وادي حنيفة قبل قرون، وبقيت جُمله محفوظة في جدران لم تتوقف عن الهمس بتاريخ الدولة السعودية الأولى وبداياتها. ومنذ الرابعة عصرًا، يتقدم الزوار في ممرات الطريف كما لو أنهم يمشون داخل كتاب مفتوح؛ عروض مسرحية تضيء ظلال القصور، وسرد حي يعيد رسم ملامح المجالس والاستقبالات والمناسبات التي شهدتها تلك الغرف، وتجارب تفاعلية تمنح الزائر إحساسًا نادرًا بأنه يعبر الزمن لا المكان. "الطريف".. ذاكرة حكم وعمران الحياة اختار الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود هذا المكان في عام "1180ه/1766م"، لا لارتفاعه وحسب، بل لرمزيته؛ فالطريف كان وما يزال قلبًا نابضًا بفكرة الدولة وبمسارها نحو الوحدة والاستقرار. يضم الحي (13) قصرًا و(5) مساجد، يتقدمها قصر سلوى الذي يشبه في حضوره «المتن» الذي تنبثق منه كل الحكايات، تحيط به منشآت تشبه الهوامش التي تُكمل النص: سبالة موضي، بيت المال، جامع الطريف، وحمّام يعكس جودة الحياة ورهافتها. قصور تُفتح وقيم تستيقظ.. ولم يكن افتتاح ستة قصور تاريخية مجرد حدث عمراني؛ بل هو استدعاء لقيم جسدها أصحابها عبر التاريخ: "قصر - الصمود - للإمام عبدالله بن سعود، قصر - الشجاعة والصبر- للأمير تركي بن سعود، قصر - العلم- للأمير ثنيان بن سعود، قصر -العزوة- للأمير مشاري بن سعود، قصر - الابتكار- للأمير سعد بن سعود، قصر - الأمن وحماية القوافل - للأمير ناصر بن سعود. هذه القصور لا تُعرض كأثر جامد، بل كحكايات حية تُستعاد، وكقيم تتجدد في زمن جديد يحفظ المكان ويؤمن بقدرته على الإلهام. جسر بين زمنين.. يقدم برنامج «هَل القصور» تجربة تُعيد وصل ما انقطع بين الإنسان ومكانه؛ فالعروض تحاور الذاكرة، وتستحضر دور الأئمة والأمراء في بناء الدرعية والدفاع عنها، بينما يمنح المشي بين القصور شعورًا عميقًا بأن التراث ليس مادة من الماضي، بل وعي ممتد في الحاضر ومؤسس للمستقبل. موسم الدرعية.. سفر عبر الأزمنة يعيد موسم الدرعية تشكيل العلاقة مع التراث بوصفه رحلة عبر الزمن، لا مجرد زيارة. فهنا، في الطريف، يلتقي عشاق الثقافة والتاريخ من أنحاء العالم، ليشاهدوا المكان الذي كان مركزًا للثقل السياسي والاجتماعي، في صيغة جديدة تمزج أصالة التراث السعودي بروح الابتكار التي تشهدها المملكة اليوم. في ختام التجربة، يدرك الزائر أن القصور ليست جدرانًا مفتوحة؛ بل مرآة تُريك كيف كان الإنسان يبني عالمه، وكيف ما زال قادرًا على إعادة تخيله من جديد.