في المشهد الأدبي، لا تغيب الأسماء لأن أصحابها بلا موهبة، بل لأن كثيرًا منهم لم يفهم معنى الظهور، ولا كيفية تحويل النص إلى حضور. فالأدب لا يحفظ الغائبين مهما كانت نصوصهم جميلة، بل يحفظ من يعرف كيف يجعل من كتابته أثرًا ومن اسمه ظلًا يمتد خلف كل جملة يكتبها؟ يظن بعض الكتّاب أن جودة النص تكفي ليكونوا معروفين، فيكتبون بروعة ثم يختفون، كأن الكاتب يريد من العالم أن يقرأه بدون أن يراه. هذا الوهم يجعل نصوصًا كثيرة تموت في صمت، لأن الظهور هو الجسر الوحيد الذي يصل الكاتب بقارئه. حين يكتب أحدهم نصًا بديعًا ثم يتركه في زاوية بعيدة، فإن النص يفقد فرصته في الحياة مهما كان متقنًا، فالكتابة التي لا تخرج إلى الناس تظل مجرد مسودة بلا أثر، وتختفي أسماء أخرى لأنها تتأخر طويلًا في إظهار نتاجها الذي تكتبه. الكاتب الذي يكتب ويعيد ويؤجل ويخشى العلن، يخسر لحظة النص وحرارته ووقته الطبيعي للظهور، هناك نصوص تموت لأنها جاءت متأخرة، وكأنها فقدت نبضها عبر الانتظار الطويل، الأدب لا يحب التردد، يريد حسمًا، وإقدامًا، وإعلانًا لا يخجل من ضوءه، وهناك من يفقد شغفه بعد أول خطوة أو أول خيبة. يبدأ الكاتب مشتعلًا ثم يبهت حين يواجه تعليقات باردة أو نقدًا قاسيًا أو تجاهلًا أوليًا، الشغف هنا ليس مجرد حماس، بل هو الطاقة التي تدفع الكاتب ليحافظ على وجوده، ليعود كل مرة، ليكتب من جديد حتى وإن لم يُصفّق له أحد. اختفى كثيرون لا لضعفهم، بل لأن دفء البدايات لم يصمد أمام صقيع الواقع وأمام إحباطات اللحظة وخيبات التوقع. وتوجد فئة أخرى من الكتّاب تُطاردها مخاوف لا تنتهي: الخوف من الفشل، من المقارنة، من التقييم، من أن يقولوا «لم ينجح»، هؤلاء يملكون نصوصًا تستحق الحياة، لكنهم لا يمتلكون الجرأة على دفعها نحو الضوء، يعيشون في منطقة رمادية بين الرغبة والرهبة، بين القدرة والإخفاء، حتى يضيعوا قبل أن يحاولوا أصلًا. وهكذا تُدفن مواهب كثيرة تحت ركام الخوف قبل أن تُمنح فرصة واحدة للظهور رغم قدرتها وتمكنها وروعة ما تكتب. المشكلة ليست في الموهبة، بل في الحضور، فالحضور الأدبي ليس ضجيجًا ولا استعراضًا، بل هو وعيٌ بالذات، واستمرارية في العطاء، وقدرة على تقديم العمل في لحظته المناسبة، والظهور بثقة، والتواصل مع قرّاء يعرفون أن وراء النص شخصًا يستحق الإصغاء. الكاتب الحقيقي لا ينتظر أن يكتشفه العالم بالصدفة؛ بل هو من يفتح باب حضوره بنفسه، ويعلن نصّه، ويصنع لنفسه مساحة لا ينازعه عليها أحد، وينجح ويتفوق ويسوق لنفسه ويبدع في كل ما يقدمه. لهذا تختفي كثير من الأسماء قبل أن تُولد، وتتأخر أسماء أخرى حتى تفقد فرصتها، وتتساقط مواهب جميلة لأنها فقدت شغفها أو خافت من لحظة الحسم، وحده الكاتب الذي يفهم أن الأدب حضور قبل أن يكون كتابة هو الذي يبقى، وهو الذي يتحول إلى اسم لا يُنسى، وصوت لا يتوقف صداه عند حدود نص واحد، بل يصر على الظهور حتى يجد نفسه ويحقق نجاحه.