كثير من الناس يعوقه عن شرف الخصومة تصوّره أن الامتثال للوازع الشرعي والعرفي والنظامي عبء ثقيل، وأن ارتجال الفعل وردّة الفعل ميسور لا يحتاج إلى صبر ولا موازنة بين المتعارضات، وهذا تصوّر غير صائب؛ فالانضباط يوفّر لمن بذلَه راحةً وأماناً وكرامةً في حياته ومعاده، أمّا عدمُ الانضباط فكُلفتُه المستقبلية ثقيلة جداً.. متَّع الله تعالى الإنسانَ بالتّكريم العامّ، فميّزه بمزايا ليست لغيره، وركَّب فيه عقلاً وتمييزاً يُمكنه أن يجسّد بهما ذلك التّكريمَ؛ ليظهر في سلوكه وتصرُّفاته، وأرسل رسله صلوات الله وسلامه عليهم مُرشدينَ إلى مناهج السداد وقواعد الإنصاف التي تعين كلَّ فرد على احترام كرامة الآخرين، فكانَ بوسع الإنسان أن تكونَ معاملاتُه في الرضا والغضب محكومةً بالشرع المطّهر، حسبَ الجهد والطاقة، موزونةً بالعقل السّليم، مُراعًى فيها ما ترسّخ في مستحسن الأعراف والعادات والقيَم الاجتماعيّة، وما تقرَّرَ من الأنظمة الكفيلة بانضباط التصرُّفات، وما من موقف من مواقف الحياة إلّا وهو مُحتاجٌ إلى أن يعالجه المرء بشرف ومسؤوليّة، وموقفُ الخصومة وسوء التفاهم من المواقف التي يصعبُ فيها ذلك على كثير من الناس مع أنّه أحوج المواقف إلى أن يتجلّى فيه كرمُ الطبيعة، وسموّ الأخلاق، وأن يستشعر الإنسانُ فيه أنّه يسير في منعطفات ومزالقَ لا بدَّ فيها من تحرّي الحيطة والحذر، فهو مطالبٌ بحفظ حقّه وكرامته، وعدم التعدّي على حقوق وكرامة الآخر، ولا شك أن هذا مضيقٌ لا ينجح في اجتيازه إلا الحريصُ المنصفُ، ولي مع شرف الخصومة وقفات: الأولى: من قواعد الشرع الحنيف العامّة: الوسطيّةُ والاعتدالُ في كلّ شيء، والخصومةُ ليست مستثناةً من ذلك، بل هي ميدانُ التجربة الذي يظهر فيه مدى استعداد الإنسان للاعتدال والموازنة بين المشاعر المتضاربة، وحصر كلّ منها في مساره الطبيعيّ، فلا يُنسيه حبُ الانتصاف لنفسه أنّه يلزمه الإنصاف من نفسه، وهذا هو العدلُ المأمور به في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامينَ للَّه شُهَداءَ بالْقسْط وَلا يَجْرمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْم عَلى أَلاَّ تَعْدلُوا اعْدلُوا هُوَ أَقْرَبُ للتَّقْوى)، فالمنصفُ يدرك أنَّ من حقّه أن يستردَّ حقّه المعنويَّ أو الماديَّ من آخذه، وأن يبعد عن نفسه الضرر النفسيَ أو الماليَّ الذي ألحقه به، لكن يَعرفُ أن لذلك حدوداً يلزمه الوقوف عندها، وآليات شرعيةً ونظاميّةً يجب أن يتخذها حيالَ ذلك، وأنّه لو زايَدَ وتعدّى الحدود سيكونُ ظالماً في القدر الذي زاده، وأن لمظلوميّته غايةً تنتهي إليها، وضوابط تحكمها، كما يدلُّ عليه حديثُ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْمُسْتَبَّان مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادئ، مَا لَمْ يَعْتَد الْمَظْلُومُ»، أخرجه مسلم، وهذه الغاية منها ما يتعلق بمن يتولّى أخذ الحقّ، ففي الخصومات التي يحتاج فيها إلى التقاضي لا بدَّ من اللجوء إلى قاض أو محكّم رسميّ، ومنها ما يتعلق بشخص الخصم فلا بدَّ من حصر الخصومة فيه، وأن لا تُسحب على الأبرياء من أسرته وأقربائه الذين لا علاقة لهم بالموضوع، فقد قال تعالى: (وَلَا تَزرُ وَازرَةٌ وزْرَ أُخْرَى). الثانية: من أحوج الخلافات إلى التحلي بشرف الخصومة الخلافات الأسرية؛ فإن الزواج مبنيٌّ على المكارمة، وإذا حصلت فيه أيةُ مشادّة احتاج الوضع إلى إدارتها بأحسن الأساليب وأشرفها وأكثرها حكمةً، ومن معالجته بالحسنى أن يكونَ كلُّ طرف حريصاً على حماية الطرف الآخر من أن يناله ما لا يليق به، فالزوجُ يبقى حامياً للزوجة، والزوجة وأهلها يحرصون على مكانة الزوج، ومن أروع الأمثلة لذلك ما أخرجه الإمام أحمدُ عن النُّعْمَان بْن بَشير رضي الله تعالى عنهما قَالَ: (جَاءَ أَبُو بَكْر يَسْتَأْذنُ عَلَى النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ، فَسَمعَ عَائشَةَ وَهيَ رَافعَةٌ صَوْتَهَا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ، فَأَذنَ لَهُ، فَدَخَلَ فَقَالَ: يَا ابْنَةَ أُمّ رُومَانَ وَتَنَاوَلَهَا، أَتَرْفَعينَ صَوْتَك عَلَى رَسُول اللَّه؟ قَالَ: فَحَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ أَبُو بَكْر جَعَلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهَا يَتَرَضَّاهَا: «أَلَا تَرَيْنَ أَنّي حُلْتُ بَيْنَ الرَّجُل وَبَيْنَك؟» ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْر فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْه، فَوَجَدَهُ يُضَاحكُهَا، قَالَ: فَأَذنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَالَ أَبُو بَكْر: يَا رَسُولَ اللَّه، أَشْركَاني في سلْمكُمَا كَمَا أَشْرَكْتُمَاني في حَرْبكُمَا)، فأبو بكر رضي الله تعالى عنه كان حريصاً على حماية مقام النبيّ صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قائماً بحماية عائشة رضي الله تعالى عنها. الثالثة: كثيرٌ من الناس يعوقه عن شرف الخصومة تصوُّره أنَّ الامتثالَ للوازع الشرعيّ والعرفيّ والنظاميّ عبءٌ ثقيلٌ، وأنَّ ارتجال الفعل وردّة الفعل ميسورٌ لا يحتاج إلى صبر ولا موازنة بين المتعارضات، وهذا تصوُّرٌ غيرُ صائب؛ فالانضباط يوفّرُ لمن بذلَه راحةً وأماناً وكرامةً في حياته ومعاده، أمّا عدمُ الانضباط فكُلفتُه المستقبليّة ثقيلةٌ جدّاً، فإن كانَ قد وفّر ساعات راحة فقد تسبّبَ في متاعبَ لا يعرف إلى أين تنتهي به، وقد يجتهد في التشفّي من خصمه بطرق غير شرعية ولا نظاميّة جاهلاً أنه صار يُحمّلُ ظهرَه تبعات ستلاحقه، أما من عوّد نفسَه على التقيد بهذه الضوابط المذكورة آنفاً فهو حريٌّ بأن يكونَ شريفَ التعامل، متسامياً عما لا يليق به، حافظاً لكرامته، مرغوباً في عشرته ومعاملته.