نحن لسنا ضد التلاقح الفكري والتواصل المعرفي مع كل المناهج المعرفية، ولكن يجب أن يكون ذلك بعلم من خلال خبراء في هذا المجال ومدى تأثيره على البنيات الاجتماعية، فالخبرة والعلم هما عماد الصحة النفسية عبر رسائل ثقافية وفنية نرسلها بغرض غرس القيم في مجتمع ليس ككل المجتمعات، إنه مجتمع له خصوصيته، مجتمع لصيق بماضٍ قريب لم يبرأ منه بعد.. كثير من الأفراد يتشكون من الإحساس بالغربة الزمنية برغم الاقترابات المكانية، وبرغم الرحيل عبر الفضاءات المفتوحة إلى عوالم غير محسوبة متعددة الثقافات ومتعددة العادات والتقاليد، إلا أن هناك هاجسا نفسيا يشعر فيه الفرد بالغربة. وبطبيعة الحال هناك فرق كبير بين الاغتراب والغربة، فالاغتراب مصطلح فلسفي هو"الشعور بالانفصال عن الذات أو عن المجتمع أو عن الواقع، وينتج عن عدم قدرة الفرد على تحقيق ذاته أو الشعور بالانتماء". تطور المفهوم عبر الفلسفة، حيث يراه هيغل انفصالاً عن الذات والمجتمع والعقل، بينما يراه ماركس نتيجة للانقسامات الاقتصادية في المجتمع الرأسمالي. أما في الوجودية، يرتبط الاغتراب باللامعقولية والشعور بفقدان الهدف في عالم بلا معنى. بينما يراه بعض الفلاسفة أنه حينما يقع الفرد تحت سيطرة المادة يصبح أدنى قيمة منها بحيث إنه يكتسب قيمته من المادة نفسها، وهنا يتعرض لما يسمى بالتشيؤ. والتشيؤ هنا يمكن القول ببساطة شديدة أنه حين يَتحوَّل الإنسان إلى شيء تتمركز أحلامه حول الأشياء فلا يتجاوز السطح المادي وعالم الأشياء. والإنسان المُتشيئ إنسان ذو بُعد ناقص وهو هنا يغلب عليه معنى النفعية، وذلك حينما يكون الإنسان نفسه سلعة، وعلى سبيل المثال تسليع جسد المرأة حينما يعرض كسلعة رائجة في وسائل الإعلام بلا هوادة من منطلق المفهوم النفعي. أما الغربة -التي نحن بصددها- فهي شعور الفرد بالغربة، ليس بالبعد عن الوطن وترك الأهل، وإنما تشمل المشاعر السلبية التي ترافق الشعور بالوحدة والوحشة. برغم كل ما ذكرناه سلفا من التواصل عبر الفضاءات الالكترونية وبرغم تواجده على أرضه وبين أهله وأقاربه! ولهذه الإشكالية عوامل كثيرة منها مكانية، كالهجرة من الريف إلى المدن، هذه الجهرة خلقت نوعا من تعدد التعاملات الفردية التي يرى البعض أنها قد تكون غريبة أو لا يمكن استيعابها كونها من غير طينته ومنه، على سبيل المثل تعدد اللهجات وبعض التقاليد. والعامل الآخر هو الطرز المعمارية.. فتعدد الطرز المعمارية حين غلبت عليها تلك الأسوار العالية التي تحوط المنازل خلق نوعا من العزلة. فكل منزل محاط بسور منيع يعزله عن العالم، كما تعمل على عزل الوجدان الجمعي من ناحية التأثير النفسي حتى امتد ذلك إلى بناء كيانات فيما يسمى (الكمباوندات) وهي كلمة مشتقة من (Cop) أي معسكر بما يحتويه من خصوصية وأسرار وبعد عن المجتمع وعزله، بالإضافة إلى وجود العمارات والأبنية الشاهقة، التي تحجب امتداد الرؤية البصرية وهي ما تخلق نوعا من عدم توسيع الأفق المعرفي كتأثير نفسي. وهناك أيضا عوامل ثقافية وفنية. ومن هذه العوامل ظهور الكثير من المدارس الغربية في الفن التي استوفدت من غير طينتنا والتي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، حينما شعر الإنسان باللا جدوى، وانقلب على الواقع نتاج انهيار المنطق وظهور تلك الصدمة في عدد من الدراسات النقدية فظهر العبث بروادها جان انوي وجان جنيه، وهارولد بنتر وغيرهم ممن يسخطون على هذا الواقع وينكرونه، فظهرت أعمالهم بشخصيات غير مستقرة نافرة ومتنافرة، ونحن حينما استوفدناها في فنوننا وفي ثقافتنا وفي إبداعاتنا، لم ندرك ما مدى تأثيرها النفسي على المتلقي فيما يعتمله الفن والثقافة من عمليات ديناميكية تعمل على خلخلة التفكير وعلى اتخاذ القرار أيضا! حتى إنها ظهرت آخر المدارس الفنية وهي الكوانتم وهي اللعب بالضوء في حزم جمالية تتخلل الأعمال الفنية. وفي هذا الصدد يقول النقاد "إن للآراء النقدية ولانعكاساتها على الأدب والفكر من حيث اتفاقها واختلافها ومنابع ظهورها حتى نصل إلى الأنس وننجو من معاناة الاغتراب من خلال تناولاتنا للنظريات النقدية، لأنها هي المنوطة بنشأة الأنس والمؤانسة". فالدكتور لوي عوض يرى أن لويس غولدمان "ذلك القلق حول منهج بارت المنغلق على النص آثر التنظير بوجهة نظر مغايرة حيث رأى أنه لا جدوى من هذا الانغلاق. فقد رأى النقد أنه: أولا وقبل كل شىء هو الدراسة العلمية للعمل وهذه الدراسة تنهض على أساس الفهم والتفسير المماثل -ويقصد بالتفسير المماثل- أنه استخلاص الأثر ومميزاته المنبثقة من مجموعة علاقات منطقية وربطها بالملامح العامة للبنيات الكلية للمجتمع". وهذا ما يسبب اعتلالا نفسيا داخليا لا شعوريا لا يعرف الفرد مصدره، وهذا ما يدفعه إلى أن يهرع إلى تلك الآلة (جهاز التليفون) يقضي فيها ساعات عديدة حتى برغم تواجده في مجالس العائلة أو حتى مجالس الرجال، نراه ممسكا بجهازه منفصلا عن الآخرين، إنه البحث الدائم عن الأنس المفقود، نظرا لتمزقه بين عالم معاصر حديث الوجود على بنيته الاجتماعية وبين ماضٍ قريب تربى ونشأ عليه، ولعله ما يسمى في علم النفس بالصدمة الحضارية. نحن لسنا ضد التلاقح الفكري والتواصل المعرفي مع كل المناهج المعرفية، ولكن يجب أن يكون ذلك بعلم من خلال خبراء في هذا المجال ومدى تأثيره على البنيات الاجتماعية، فالخبرة والعلم هما عماد الصحة النفسية عبر رسائل ثقافية وفنية نرسلها بغرض غرس القيم في مجتمع ليس ككل المجتمعات، إنه مجتمع له خصوصيته، مجتمع لصيق بماضٍ قريب لم يبرأ منه بعد، ومن تأصله في ذاته، مهما لبس ثوب التحديث، ومن هنا فلابد من وجود علماء وخبراء في هذا المجال لشدة خطورته ولشدة حضوره في زمن لصيق بماضٍ قريب، ولذلك يقول ابن خلدون: "الاعتراف بالعلم قيمة اجتماعية وقيمية وثقافية غالبة فلا يستقيم الأمر إلا بقيمة خلقية يحتمها مرور العلماء للحفظ من الشتات والتشرذم إلى التآلف والاتحاد، ومن التناحر إلى التعاون، ومن الهراش في الشارع إلى الحوار الهادئ داخل المؤسسة، وهي فضيلة التآنس والمؤانسة".