ألَّفَ أحدهم كتاباً، وضع عنوانه (إلى طه حسين في عيد ميلاده السبعين: دراسات مهداة من أصدقائه وتلاميذه)، وفكرة الكتاب تنطلق من جمع بعض الدراسات والمقالات اللغوية، والتاريخية، والفلسفية التي لا تمسّ طه حسين بشكل مباشر، ولكنها تنهض، أو تتأسس على شيء من تنظيره، أو إنتاجه العلمي؛ لذلك وضع جَامِعُ الكتاب له تقديماً اشتمل على تعريف بطه حسين، وشخصيته، ومؤلفاته، وما تُرجِم منها، واستهل تقديمه بإهداءٍ قال فيه: «إلى العلم الشامخ في الأدب المعاصر، إلى رائد النزعة الإنسانية في الفكر العربي الحديث، إلى الأديب الذي فتح للأدب العربي آفاقاً علمية..»، ثم ذكر الجامع سبب تأليف الكتاب قائلاً: «إلى الدكتور طه حسين، يهدي نفرٌ من أصدقائه.. العارفين بعظيم فضله، وبالغ أثره في الأدب والفكر بعامة.. يهدون هذه الدراسات التي تدور حول موضوعات، وفي ميادين للبحث، كان له فيها جميعاً مكان الصدارة.. كيف لا وهو الذي أدخل منهج النقد التاريخي الوثيق في دراسة الأدب الجاهلي.. وبهذا وضع للنقد الفيلولوجي الأساس المتين لكل دراسة في هذا الميدان». ومن هنا انبثقت عندي فكرة الكتابة على غرار هذا الكتاب، والنسج على منواله، ولكن في حقّ أستاذنا الكبير، وناقدنا القدير الأستاذ الدكتور عبدالله الغذامي، فلئن كان طه حسين عميداً في بابه، وأثيراً لدى طلابه، فإن الغذامي «عَلَمٌ في رأسِهِ نارُ»، فهو عميدٌ في دراساته ونظرياته، وأثير لدى طلابه وطالباته، وهو صاحب مشروع (النقد الثقافي)، أو (نظرية النقد الثقافي)، وإذا كان طه حسين صاحب مشروع نقدي كان متوافقاً مع زمنه، فإن الغذامي كذلك صاحب مشروع متوائم مع عصره، وإذا كان طه حسين قد ابتُعِث إلى فرنسا، فالغذامي قد ابتُعث إلى بريطانيا، وقد تلقّف كل منهما منهجاً علميّاً اختطه لنفسه، وراح يشتغل فيه تطبيقاً على الأدب وأجناسه، بل إنهما تشابها في الجدل الحائم حولهما، فَتَدَافَعَ خصومهما بين تقليديين وحداثيين. ومع كثرة ذلك التوافق بينهما، فأنا هنا لا أعقد مقارنة، أو أقيم موازنة نقدية، لكنني أردت القول: إننا أمام شخصيتين عربيتين ناقِدَتين مُؤسِّسَتَين ذَوَاتَي نظرية عميقة، ومشروع كبير. والحقُّ أن الغذامي الذي لم ينل ما ناله طه حسين من الحظوة والاهتمام -مع كل ذلك التشابه- ينبغي علينا نحن معشر الباحثين والنقاد تكثيف الاعتناء بمنجزه الكبير، والانطلاق من نظرياته التي اشتغل عليها زمناً طويلاً حتى استوت على سوقها، وإن كانت الدراسات في مشروعه ما تزال تتأسس يوماً بعد يوم، غير أنها إذا قيست بمنجز طه حسين ألفيناها أقلّ أثراً، مع أن منجز الغذامي قد يكون أكثر وضوحاً وتجددّا، وأوسع أفقاً وتمدّدا؛ لذلك فإننا بحاجة إلى زيادة التعمق في نظرية الغذامي، والولوج في أغوارها، واستنباط أسرارها، وتصديرها بشكل مكثف بوصفها منجزاً رائداً، لا بوصفها منهجاً نقدياً، أو اتجاهاً علمياً فحسب. لقد شَهِدْتُ في كثيرٍ من المؤسسات والجامعات العربية -وبخاصةٍ المغاربية- من ينهضون بتخصيص كتاب، أو ملتقى، أو ندوة، أو مؤتمر، باسم الشخص المحتفى به، ولا سيما إذا كان عالماً، أو منظّرًا يستحق، حيث يَجمَعُ تلامذته، وأصدقاؤه، وزملاؤه، ما يدونونه حول منجزه، وهي ظاهرة صحية وجميلة؛ لذلك أدعو المهتمين هنا إلى حذو هذه الطريقة، وحذو الكتاب المُهدَى إلى طه حسين، ولنخصّص للغذامي كتاباً، أو مؤتمراً يحتفي به وبمشروعه، وليكن عنوانه مثلاً: (إلى الغذامي في ذكرى نظريته)، فأبوغادة ما زال يستحق الاحتفاء.