توالت الحوادث التي تستهدف المقتنيات الفنية والأثرية في المتاحف العالمية، كسرقة سوار ذهبي أثري من خزينة المتحف المصري بالتحرير، وحوادث مماثلة في متحف اللوفر ومتحف ميزون دي لوميير في فرنسا، وحتى حادثة تخريب لوحة بالطلاء الأحمر في المتحف البحري بمدريد. مثل هذه الوقائع تطرح تساؤلات جوهرية تتجاوز البُعد الأمني إلى صميم العلاقة بين المجتمع وتراثه الثقافي، وتكشف عن قصور في المنظومة التربوية التي يفترض أن تَبني الوعي بقيمة الإرث الإنساني. تكمن المشكلة الأساسية في غياب الوعي المجتمعي لطبيعة المتحف ووظيفته الحقيقية. فالمتحف يتجاوز دوره في حفظ التراث ليشمل دوراً مؤسسياً تعليمياً يسعى لربط الأجيال بالتاريخ الثقافي عبرالتجربة المباشرة مع الموروث الإنساني. عندما تُسرق قطعة أثرية أو يُعتدى على عمل فني بالتخريب، فإنّ ما يتعطل يتجاوز القيمة المادية «للشيئ» المسروق ليشمل الرسالة التعليمية التي يحملها والحوار التاريخي الذي يمكن أن ينشأ حوله. في أكتوبر الماضي، أقدم ناشطون مناخيون على القاء طلاء أحمر قابل للتحلل على لوحة «أول تكريم لكريستوفر كولومبوس» للفنان الإسباني خوسيه غارنييلو في المتحف البحري بمدريد خلال احتفالات اليوم الوطني الإسباني. هذه الحادثة تمثل نموذجاً لاستخدام التراث الثقافي وسيلة للاحتجاج السياسي أو الاجتماعي. يرى الناشطون الذين نفذوا العملية أنهم يلفتون الانتباه لقضية مهمة، لكنهم في الحقيقة يُعمّقون الفجوة بين المجتمع ومؤسساسته الثقافية. فضاعت الرسالة التي أرادوا ايصالها في زحام فعلهم الاستفزازي، وتحول النقاش من جوهر القضية التي يؤمنون بها إلى مدى شرعية الوسيلة التي استخدموها في لفت الانتباه. هذا يكشف عن خلل في فهم وظيفة المتحف كمكان للحوار الثقافي البنّاء وأنّه ليس ساحة للصراع! هذه السرقات تعكس مشكلة أعمق تتعلق بانعدام الشعور بالإنتماء إلى التراث الوطني والإنساني، ولكن يجب التفريق في الدوافع. فبينما تكون دوافع بعض هذه الأفعال فردية ناجمة عن الإفلات من القانون، فإنّ الأكثر خطورة يتعلق بشبكات الاتجار المنظمة التي تستهدف المقتنيات النادرة لأجل الربح المادي الضخم. هذا التمييز ضروري في صياغة الاستراتيجيات الأمنية ومكافحة الجريمة. هذه الظاهرة نتجت عن تراكم لسنوات من الإهمال التربوي و الثقافي. حيث تغيب في معظم المدارس برامج تعليم الأطفال قراءة التاريخ من خلال القطع الأثرية، بينما تفتقد غالبية الأُسر إلى ثقافة اصطحاب أبنائها إلى المتاحف كجزء من التنشئة، في الوقت الذي تعجز فيه بعض المؤسسات المتحفية عن بناء جسور تواصل حقيقية مع جمهورها. علاوة على ذلك، فإن الأثر الاقتصادي لهذه الحوادث يتجاوز الخسارة الثقافية. فتكاليف الترميم و الحماية المشددة تستنزف ميزانيات المتاحف، بينما تؤثر سلباً على الحركة السياحية التي تشكل مصدراً حيوياً للدخل الوطني. السياحة الثقافية في مصر وحدها على سبيل المثال تساهم بمليارات الدولارات سنويا، ومن المتوقع أن يزداد مع افتتاح المتحف المصري الكبير، وأي اعتداء على التراث يهدد هذا المورد الاستراتيجي. وفي تونس مثلاً أدت سرقات متكررة لمتحف باردو إلى انخفاض أعداد الزوار بنسبة تجاوزت 30 % خلال عام واحد مما انعكس سلباً على الإقتصاد المحلي. التعامل مع هذه الإشكالية يتطلب إعادة نظر جذرية في دورالمتحف التربوي. فالمطلوب أن لايُكتفى بتشديد الإجراءات الأمنية أو تركيب المزيد من كميرات المراقبة و استخدام الذكاءات الاصطناعيه لتأمين المتاحف، فهذه الحلول مؤقته تعالج الأعراض دون الأسباب. الحل الحقيقي يكمن في نشر الوعي في المجتمع ليدرِك ان أيّ عمل فني أو قطعة أثرية تُعدّ جزء من هوية المجتمع المشتركة، وأن الإعتداء عليها هو اعتداء على التاريخ الثقافي، وهذا يتطلب برامج تربوية طويلة الأمد تبدأ من المدرسة وتمتد إلى المجتمع ككل. ولتكامل لجهود، يجب أن يُعَزَز هذا الوعي التربوي بإطار تشريعي رادع وواضح. إنّ معالجة أزمة السرقات والتخريب لا تكتمل دون مراجعة لقوانين حماية التراث الثقافي وتعزيز العقوبات المقررة على جرائم الاعتداء على المتاحف والممتلكات الاثرية. وصرامة التشريع في هذا المجال يعمل كرادع فعال يوازي الجهد التوعوي ويضيق الخناق على شبكات الاتجار غير المشروع، محققاً بذلك تكاملاً بين دور المجتمع ودور الدولة القانوني. في هذا السياق، استضافت هيئة التراث بالمملكة العربية السعودية مؤتمراً دولياً لمكافحة الإتّجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية، بهدف تعزيز الجهود الوطنية والإقليمية والدولية لحماية الممتلكات الثقافية ومناقشة التشريعات الحالية والدولية المتعلقة بحماية التراث. يمثّل هذا المؤتمر خطوة مهمة نحو بناء إطار متكامل يجمع بين الحماية القانونية والتوعية المجتمعية. لذلك، على المتاحف أن تعيد تعريف على علاقتها بالجمهور. عليها أن تتحول من مؤسسات منغلقة تخاطب النخبة إلى منصات للحوار المجتمعي حول معنى التراث و أهميته. يمكن تحقيق ذلك من خلال ورش عمل تفاعلية، برامج موجّهة للمدارس، نقاشات عامة حول قضايا الحفاظ على التراث، واستخدام التكنولوجيا لإشراك الزوار في عملية التوثيق و الحماية. عندما يشعر الزائر أنه شريك في حماية التراث وليس فقط متفرجاً او متلقّياً سيتغير سلوكه تلقائياً. التجربة الدولية في هذا السياق تثبت أن المجتمعات التي تستثمر في التعليم المتحفي منذ الصغر تنجح في بناء احترام التراث. في دول مثل اليابان و ألمانيا تعتبر الزيارات المدرسية للمتاحف جزءاً أساسياً من المنهج، والأطفال يتعلمون مبكراً أنّ هذه القطع تمثل إرثاً إنسانياً مشتركاً يتجاوز كونها ممتلكات حكومية. في اليابان يزور كل طفل المتحف ثلاث مرات سنوياً على الأقل كجزء من المنهج الدراسي، ويتعلم الأطفال مبكرا مفهوم «المسؤولية الثقافية المجتمعية». في المانيا تنظم المتاحف برامج «تبنّي قطعة أثرية» حيث تساهم العائلات في صيانة مقتنيات محددة مما يخلق ارتباطاً عاطفياً بالتراث. هذا الوعي المبكر ينعكس لاحقاً على سلوك الأفراد كمواطنين مسؤولين تجاه تراثهم. بالرغم من التحديات، هناك نماذج عربية واعدة يمكن البناء عليها. في المملكة العربية السعودية أطلقت هيئة التراث برنامج (أصدقاء المتاحف) الذي يستهدف طلاب الجامعات ويدربهم على الإرشاد المتحفي و التوعية المجتمعية. من التجارب العربية الناجحة برنامج (حراس التراث) في الأردن الذي يدرب المجتمعات المحلية على حماية المواقع الأثرية والابلاغ عن أي محاولات للتخريب. علاوة على ذلك، يمكن للمدارس أن تلعب دوراً محورياً عبر تخصيص يوم شهري للزيارات المتحفية، وإدراج مشاريع بحثية حول القطع الأثرية ضمن المناهج الدراسية، وتنظيم مسابقات فنية تشجع الطلاب على التعبير عن فهمهم للتراث بطرق إبداعية مثل مبادرة (سفراء المتاحف) في الإمارات التي تستهدف طلاب المدارس وتحولهم إلى ناقلين للوعي الثقافي في مجتمعاتهم. ما يحدث في المتاحف اليوم يعكس أزمة أوسع في العلاقة بين الأفراد والمؤسسات الثقافية. الحل يبدأ من استيعاب فكرة المتحف وماهيته ودوره التعليمي والفني والمجتمعي في حماية التراث. هذه المسؤولية تتطلب من المجتمع أن يدرك قيمة القطع الأثرية وأهميتها، والمسؤولية تجاه حمايتها وصونها. أعتقد أنّ مسؤولية حماية التراث لاتقع على الحكومات وحدها. المسؤولية تقع على كل فرد يدرك أن ما نحميه اليوم هو ما سيرويه أحفادنا غداً عن هويتهم وجذورهم وثقافتهم.. فهل سنترك لهم تاريخاً محفوظاً أم فراغاً ثقافياً لا يمكن تعويضه؟.