في هذه الزاوية سيأخذنا علوان السهيمي، صحفي وروائي وقاص سعودي صدر له ست روايات: الدود، الأرض لا تحابي أحد، القار، حياة بنصف وجه، حقيقة قوس قزح، هجمة واعدة، إلى عوالم القراءة من خلال ما اطلع عليه مؤخراً ويوصي بقراءتها. «كل الأصوات» سعد حجر في هذا العمل يفاجئني سعد حجر؛ لأنه كان يكتب في صمت، بكل خفة ممكنة كراقص باليه، ولم يكن أمامي سوى أن أقول إنه سارد عظيم، وُلد كبيراً منذ اللحظة الأولى، وكأن مخاض ولادته امتدّ لأربعين عاماً، إنه سلوك النبوّة بلا شك. «كل الأصوات» تعد الرواية الثانية لحجر بعد روايته الأولى «ارتيابك في غير محله»، يقفز سعد على كل الأشياء التي لم نكن نراها في مجتمعنا، ليكتبها بواقعية تشعرنا بأنها موجودة منذ مئات السنين، لقد أطلق الموسيقيّ في داخله، فهو يذكرنا بليالي القرى الطويلة في إجازة الصيف، حينما كنا نسهر في الأودية، ولا بد أن يكون معنا من ينطلق في عذوبة لا تضاهى، ويبدأ في الغناء، ولقد استطاع هذا العمل الروائي القصير أن يترجم هذه الذاكرة الممتلئة بالفن، منحاز لذاكرتي قبل كل شيء، ليس هناك ما هو مدهش أكثر من أن ترى الآخرين وهم يكتبون ذاكرتك. «الروع» زهران القاسمي كلما اقتربنا من بيئتنا، ازددنا إنسانية، الفن قائم على فكرة الاقتناص، فهو يتحلى بالدقة الكافية لالتقاط حالة إنسانية ما، وتقديمها للناس لتكون محور الحياة في ذلك الوقت، وأعتقد بأن رواية «الرّوع» تمثّلت في اقتناص فكرة إنسانية قلما نتنبه لها، وبنَت عالماً متماسكاً حولها، وقدّمته للقارئ بأجمل طريقة ممكنة. الرواية ببساطة تتحدث عن علاقة البطل «محجان» بفزّاعته التي بناها، هذه العلاقة التي صارت ملتبسة في نهاية الأمر، فدفعته في لحظات ما إلى الجنون، فهل ارتباطنا بالأشياء التي نحبها يدفعنا للجنون بشكل أو بآخر؟ وهل إيماننا بفكرة ما يمكن أن يقودنا إلى عوالم لم نكن نتخيلها؟ الرواية غارقة في المحلية، تمسكنا بيدينا وتذهب بنا إلى قرى عُمان البعيدة، لأولئك البسطاء الذين ربما في أحيان كثيرة لا يلفتون انتباهنا، ووظيفة الفن أن يلفت انتباهنا لأولئك الذي يعيشون في الهامش في الواقع، ولا يلفت لهم أحد. «الريح لا تستثني أحداً» عائشة مختار الفن بطبيعته يتمرد على القوالب والقوانين، تلك القدرة على تجاوز المألوف، للوصول إلى مناطق جديدة، تثير الدهشة والجمال في أنفسنا، هذا أول ما تبادر إلى ذهني بعدما انتهيت من «الريح لا تستثني أحداً»، لقد كان العمل متفوّقاً في شكله، متجاوزاً لما نعتقده، ونتوقعه، إنه المعنى الحقيقي لأن يكسر الفن أفق توقعنا، حتى هذه اللحظة لم أستطع تمييز الشكل النهائي له، فلم أقدر على تصنيفه، كان لديه تلك الهالة الكبرى في أن يسيطر عليّ بجماله الآسر. إنه عمل مكتوب بعناية فائقة، يجمع نصوصًا متفرقة وقصصًا مختلفة لكنها تصبّ في عالم واحد، أعتقد بأن وضع القصص داخل النصوص لم يخطط له، إنها مرتبة بعشوائية الفنان الذي يدرك بأن هذه القصة ينبغي أن تكون في هذا المكان بالتحديد، دون أن يعرف لماذا؟ عمل يستفز الحواس، فبلا شك ستتحسس أذنيك، وأنفك، وعينيك أثناء القراءة، لأنه يقول تلك الأشياء التي تسمعها، وتشمّها وتراها لأول مرة. كل شخصيات العمل بلا أسماء، وكأن الكاتبة توحي بأن أسماءنا ليست ذات أهمية بالشكل الكافي، إزاء تلك الصفات التي تلتصق بنا في الحياة، وتكون قدرنا فيما بعد. «في وداع غابو ومرسيدس» رودريغو غارثيا ماركيز يتحدث عن فترة مرض الروائي الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز، وأيامه الأخيرة بعدما تعب وأصيب بالخرف، لكنه كتاب مكتوب بحرفية عالية، بتلك الطريقة التي نقرأ بها ماركيز نفسه، رغم أن الكتاب مكتوب من قبل ابنه الأكبر، لكنه يعطي دلالة على أن ماركيز كان ساخراً على المستوى الشخصي، وعميقاً في علاقته مع الحياة والناس، الكتاب لم يأتِ على كل شيء، إنما وثّق مرحلة زمنية قصيرة في حياة هذا الروائي، وعلى صغر حجم الكتاب يحاول إفهامنا إلى أي مدى أن الحياة قصيرة وتافهة، خاصة عندما بدأت تتفلت ذاكرة ماركيز، وهو يحاول مقاومة ذلك لأجل أن يكتب، لكنه ينصاع أخيراً إلى الهزيمة التي ألحقها به الزمن، فنحن نستطيع أن نخلق حيوات عدة على الورق، لكننا في لحظة متأخرة، ندرك أي معنى لضآلتنا تجاه تقادمنا في السن. «ظل يسقط على الجدار» منى حبراس لم يكن صرخة عتاب لا تنقع، إنما أشركتنا معها الكاتبة في طفولتها في القسم الأول، وفي القسم الثاني كتبت بحب عن أولئك الذي صنعوا ذاكرتها، وفي القسم الثالث تحدثت عن بعض المعاني التي كوّنت شخصيتها، ومازالت لصيقة بالذاكرة، وفي الفصل الأخير لم تنس الكتابة كطريقة موازية للعيش، الكتاب يحلّق بك لترى قرى عمان، وأحيائها القديمة، للإنسان العماني الذي لطالما شعرنا بأننا لا نعرفه بشكل جيد، فاكتشفنا بأنه يشبهنا تماماً، لكل تلك الحكايات التي مررنا بها جميعاً في طفولتنا لكننا لم نستطع أن نكتبها بالجمال الذي كتبته منى. بحب، وصدق، وبلا تكلف، يخترق روحك فتشعر في لحظات ما بأن كاتبته تجلس بجانبك، تتحدث معك على انفراد أكثر من كونها تكتب ما ميز الكتاب أنه يلتقط تلك الأفكار الصغيرة التي لم نتنبه لها ويضعها أمامنا في أجمل حلة ممكنة، فنحن نذكر جميعنا بأننا بدأنا بالكتابة بالقلم الحبر في الصف الرابع الابتدائي لكننا لم نكتب عن تلك الدهشة ونحن نرى الحبر الأزرق والأسود على دفاترنا. علوان السهيمي