أثناء عملي كباحثة في متحف دالاس للفنون Dallas Museum of Art شهدت موقفاً غيّر نظرتي للمؤسسات الثقافية، وقف الفنان التشكيلي الكفيف جون برامبليت John Bramblitt أمام لوحته الزيتية الملونة وحوْلَهُ مجموعة من الزوار المبصرين يستمعون بانتباه لشرح تفاصيل عمله الفني. كان يتحدث عن اختياراته اللونية وكيف يميّز بينها عن طريق ملمسها، وعن الضوء والظل، وعن الحركة داخل اللوحة بنبرة من يملك رؤية مختلفة لا تعتمد على البصر. لم يكن «ضيفاً استثنائياً» يُحتفى به لتجاوزه إعاقته، بل كان فناناً يمارس دوره الطبيعي في الحوار الفني ويُقدم منظوره المميز ليُثري فهم الآخرين للعمل الإبداعي من زاوية لم يألفوها من قبل. هذا المشهد المؤثر كان جزءاً من رؤية المتحف التي تَمنَح ذوي الإعاقة مساحة حقيقية للتأثير والتشكيل والقيادة لا مجرد الاكتفاء بتوفيرأدوات التيسير لهم. في هذا السياق، يتجسد هذا التوجّه على المستوى المؤسسي في برامج واقعية مثل «ماوراء البصر» (Art Beyond Sight) في متحف دالاس للفنون، حيث تُنظّم ورش عمل حسيّة تتيح للأشخاص ذوي الإعاقة البصرية استكشاف الأعمال الفنية باللمس، محوّلة التجربة الفنية من مجرد مشاهدة بصرية إلى تفاعل متعدد الحواس يشارك فيه الجميع. التصميم الشامل هنا يُمثّل موقفاً أخلاقياً متجذراً يُبنى منذ اللحظة الأولى لتكوين فكرة المتحف ورسالته. من منظور التعليم المتحفي، ينطلق التعامل مع الزوار ذوي الإعاقة من مبدأ الشراكة الفعلية في تصميم التجربة المتحفية، يتجسّد احترام تنوع الخبرات الحسية والمعرفية من خلال إدماج أدوات التيسير مباشرة في البُنية الأساسية للمعرض بدلاً من تقديمها كإضافات منفصلة، بهذه الرؤية يتحول الزائر الكفيف إلى شريك في تصميم المحتويات السمعية واللمسية، بينما يساهم الزائر الأصم في صياغة لغة الإشارة المُعبّرة عن المضامين البصرية للمعروضات. أما الأطفال أو ذوو صعوبات التعلم، فتمكينهم يتم عبر «تصميم بيئة متحفية مرنة» (Flexible Design) تسمح لهم بالاكتشاف الذاتي والتجريب بحريّة، بعيداً عن الأنشطة السطحية او الجاهزة المقولبة، ويمكن توفير «الساعات الحسية الهادئة» (Sensory-Friendly Hours) للزوار من طيف التوحد وذوي الاضطرابات الحسيّة. كمتخصصين يجب أن نركز على كيفية تمثيل الإعاقة في المتاحف والمعارض الثقافية، ودور المؤسسات الثقافية في تغيير الصور النمطية المرتبطة بالأشخاص ذوي الهمم، إذا استبعدنا النموذج الطبي الذي يرى الإعاقة كخلل فردي واعتمدنا النموذج الاجتماعي الذي يركز على الحواجز الاجتماعية والثقافية التي «تعيق» المشاركة، نستنتج أن الإعاقة قضية ثقافية وليست طبية فقط. في السياق السعودي، على سبيل المثال، خطَت هيئة المتاحف خطوة إيجابية بتوقيع مذكرة تفاهم مع هيئة رعاية الأشخاص ذوي الإعاقة في سبتمبر 2024، تهدف المذكرة إلى وضع سياسات واستراتيجيات مشتركة لتمكين ذوي الإعاقة في مختلف المجالات المتعلقة بالمتاحف، وتشمل محاور عدة: تطوير بيئة ملائمة تحقق إمكانية الوصول الفعلي للمتاحف، تعزيز الشراكات مع المدارس والجامعات والقطاع غير الربحي لتشجيع زيارات ذوي الإعاقة، وتنظيم ورش عمل لموظفي المتاحف لتقديم خدمات شاملة لجميع الزوار. لكن في المقابل: هل تتجاوز هذه الاتفاقيات الإطار الإداري والتدريبي إلى التحول الفعلي في تصميم التجربة المتحفية وبنائها من الأساس؟ وهل ستُترجم إلى مشاركة حقيقية لذوي الإعاقة في صناعة المحتوى المتحفي وتطوير السرديات، لا مجرد تسهيل الوصول إلى ما هو قائم بالفعل؟ انطلاقاً من هذا المبدأ، يُعدّ المتحف المكان الأمثل لأنشطة التمكين المجتمعية حيث يُمْكِنُهُ تحدي المفاهيم السائدة عن «الاختلاف» و»الطبيعي» عن طريق طرح سرديات تمثّل فئات مختلفة في المجتمع وتعزز التنوع الثقافي فتُظْهِر الإعاقة ك»تنوع» لا ك»عيب»، مثال على ذلك، متاحف في بريطانيا قامت بتغيير سياساتها من التركيز على «العلاج» إلى الاحتفاء بالتنوع والاختلاف الإنساني. على سبيل المثال، متحف فكتوريا وألبرت في لندن (V&A) أنشأ برنامج «القدرة والإبداع» (Disability and Creativity) بشراكة فنية مع فنانين من ذوي الإعاقة لإنتاج أعمال فنية تتحدى الصور النمطية للإعاقة وتُدمج كأعمال دائمة ضمن مجموعات المتحف وليس كمعارض خاصة مؤقته. عند تصميم تجربة الزائر على هذا الأساس الشمولي والجامع، يصبح لكل فرد يزور المتحف مكان حقيقي ومُعتبر، ويؤخذ في الحسبان أنه مشارك فاعل في رواية العرض السردية لا مجرد متلقٍ سلبي لها. لكن هذا لا يتحقق فقط عبر الأدوات الملموسة التي يوفرها المتحف، بل يتطلب قبل كل شيء وجود رغبة حقيقية وعميقة في تحقيق الشمولية تبدأ من داخل الفريق نفسه الذي يعمل على تصميم العرض وتطويره. فيسأل فريق التصميم نفسه: هل يمثل فريق عملنا تنوع مجتمعنا واختلافه؟ هل نسمح بالتعددية في وجهات النظر والخبرات داخل فرق التصميم والبرمجة والبحث لضمان فهم أعمق للجمهورالزائر بكل فئاته؟ لكن ما يدفع نحو التحول الجذري والتحقيق الكامل للشمولية هو الاعتراف بأن الشمول لا يقتصر على ذوي الإعاقة فقط وإنما يتعلق بكل من شعر بأنه «غير مَرئي» و»غير مَعني» و»غير محسوب» و»غير مسموع» في الرواية أو السردية المتحفية المعروضة والمُهيمنَة. وقد بات هذا واضحاً في تبني «شمولية السرد»( Narrative Inclusivity) الذي يضمن إدراج قصص ووجهات نظر الأقليات والفئات غير المُمثّلة تاريخيًا. ولعل هذا أجمل ما في التصميم الشامل «خلق لحظة مساواة غير معلنة». هي تلك اللحظة القصيرة التي لا يشعر فيها الزائر بالاستثناء أو التهميش أو الإقصاء وانما بالإنتماء الكامل، تلك اللحظة التي تصنع فارقاً كبيراً في متحف يهدف إلى استقبال الجميع وإشعار الجميع بالانتماء الكامل للرواية السردية المشتركة، وحين يتبنى المتحف هذا الوعي العميق والشامل، فإنه يتجاوز فكرة أن يكون وجهة سياحية أو صرحاً ثقافياً ضخماً، ليصبح مكاناً يُعلّم الزائر كيف يرى الآخر بعمق، وكيف يسمع ما لم يعتد عليه أو يتوقعه بل وكيف يتعلّم من هذا الاختلاف ويحتفي به.