تُعد قضية الإبداع من الموضوعات الجدلية التي أثارت اهتمام الباحثين في مجالات علم النفس والتربية والفنون، وقد تباينت الآراء حول ما إذا كان الإبداع نتاجًا للموهبة الفطرية أم ثمرة للتنشئة والتعليم. وتشير الدراسات الحديثة إلى أن الإبداع هو حصيلة تفاعلٍ متكامل بين العوامل الوراثية الفطرية والعوامل البيئية المكتسبة، وليس نتيجةً لأحدهما بمعزل عن الآخر. وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى الإبداع بوصفه ظاهرة تقع بين "الطبع" و"التطبع"؛ إذ يُقصد ب الطبع ما يُولد مع الإنسان من استعدادات فطرية وملكات ذهنية، بينما يُقصد ب التطبع ما يكتسبه الفرد من خلال البيئة والتربية والخبرة الحياتية التي تُسهم في تنمية هذه الاستعدادات وصقلها. فمن الناحية الفطرية، يولد بعض الأفراد وهم يمتلكون استعدادات ذهنية ونفسية خاصة مثل سرعة التفكير والخيال الواسع والحس الجمالي، وهي سمات تسهّل بروز السلوك الإبداعي. وقد أكّد تيرمان (Terman, 1925) في دراسته الكلاسيكية أن بعض الفروق في القدرات الإبداعية يمكن أن تُعزى إلى الاستعدادات الوراثية. وأكدت أبحاث حديثة مثل دراسة Velázquez وآخرين (2015) على التوائم المنفصلين أن للعوامل الجينية دورًا ملحوظًا في القدرات الإبداعية، لكنها تتفاعل بقوة مع العوامل البيئية. أما من الناحية البيئية، فقد بيّنت أبحاث تيريزا أمابايل (Amabile, 1996) أن البيئة التعليمية والمجتمعية الداعمة التي تشجع على الحرية الفكرية والتجريب والتعلم من الخطأ تُعد من أهم محددات تنمية الإبداع. وأشارت دراسات حديثة مثل How Does Culture Shape Creativity? (2019) إلى أن الثقافة والبيئة الاجتماعية تحددان كيف يُفهم الإبداع وما الخصائص التي تُقدَّر فيه. كما أوضحت مراجعات حديثة مثل Exploring the Nature-Creativity Connection (2024) وHow Do Students Develop Creativity and Curiosity? (2024) أن التفاعل مع البيئة الطبيعية والاجتماعية والتعليمية يسهم في تعزيز القدرات الإبداعية بشكل واضح. وفي إطار أوسع، أوضحت دراسة From Growth and Fixed Creative Mindsets (2024) أن المواقف الذهنية الإيجابية تجاه الإبداع (مثل الاعتقاد بأنه مهارة قابلة للتطوير) تُعزز الدافعية الداخلية، مما يزيد من إنتاجية الفرد الإبداعية، ويؤكد على أهمية العوامل التربوية والنفسية في تكوين المبدع. كما يرى هوارد غاردنر (Gardner, 1983) أن الموهبة تمنح الإمكانية، لكن المجتمع والتعليم هما اللذان يحددان مدى تحقق هذه الإمكانية فعليًا. وبناءً على ذلك، يمكن القول: إن الإبداع هو توازنٌ بين الطبع والتطبع؛ بين الاستعداد الفطري الذي يولد مع الإنسان، والمهارات المكتسبة التي يكتسبها بالتجربة والتعليم، مما يجعل الإبداع في جوهره ثمرة تفاعلٍ مستمر بين الفطرة والإكساب، بين ما هو موروث وما هو مكتسب معًا.