شهد العالم خلال العقود الأخيرة تحولات جذرية في الأوضاع الاجتماعية والفكرية، نتيجة للتطور الهائل في وسائل الإعلام والثورة الرقمية التي اجتاحت الفضاء الإلكتروني. وقد أسهمت هذه الثورة في تغيير كثير من المبادئ والأفكار، بعضها كان إيجابيًّا فتح آفاقًا جديدة للمعرفة، وبعضها سلبيٌّ أثّر في منظومة القيم والفكر، لأنها -في كثير من الأحيان- لا تخاطب العقل بقدر ما تستفزه. في ظل هذه التحولات، برزت أصواتٌ مع صعود الإعلام الجديد، بعضها -وللأسف- من مؤثرين ومشاهير في تطبيقات التواصل الاجتماعي، وأخرى من متابعين لهؤلاء المؤثرين بنظرهم لما وصلوا له من نجاح مادي وقد خذلتهم الشهادة الجامعية في الحصول على الوظيفة المناسبة. هذه الأصوات بدأت تشكّك في جدوى التعليم الجامعي، وتدّعي أنه مضيعة للشباب ولطاقاتهم، بل يعبّر بعضهم عن ندمه على إكمال الدراسة الجامعية. غير أن الواقع يُظهر أن أغلب هؤلاء المؤثرين الذين يرفعون هذا الشعار لم يصلوا إلى الشهرة عبر علمٍ أو فكرٍ أو موهبةٍ مهنية، بل من خلال مقاطع ترفيهية أو محتوى استعراضي أو تقليد أو سخرية، نالت رواجًا واسعًا فحققت لهم جمهورًا كبيرًا -وهو في نظري جمهور مؤقت- ومع ازدياد المتابعين، اتجهت الشركات إلى تسويق منتجاتها وخدماتها من خلالهم مقابل مبالغ مالية ضخمة، أو خدمات مجانية وإعلانات مدفوعة، فظنّ البعض أن الشهرة طريق بديل عن العلم والجهد. لكن الحقيقة أن كثيرًا من أصحاب هذه الحسابات يملكون مهارات شخصية وثقافية خاصة الحسابات القصصية والتقنية وحسابات تطوير الذات أسهمت سنوات الجامعة في بنائها، سواء من خلال التجارب أو الاحتكاك أو التدريب، حتى وإن لم يدركوا ذلك. فالجامعة لا تمنح شهادة فحسب، بل تشكّل شخصية الإنسان وتنمّي فكره وتوسّع مداركه. فيها يتعلم الطالب معنى المسؤولية، والانضباط، واحترام الوقت، والعمل الجماعي، ومواجهة التحديات، وهي بذلك مدرسة لمواجهة الحياة قبل أن تكون مؤسسة علمية. وغالبًا ما يستشهد دعاة هذه الأفكار بأسماء رجال أعمال عالميين لم يكملوا تعليمهم الجامعي مثل بيل غيتس (Bill Gates) مؤسس «مايكروسوفت»، وستيف جوبز (Steve Jobs) مؤسس «آبل»، ومارك زوكربيرغ (Mark Zuckerberg) مؤسس «فيسبوك». غير أن هؤلاء لم يتركوا الدراسة عبثًا أو بدافع اليأس، بل لأن لديهم مشاريع قائمة، وخططًا واضحة، وأفكارًا قوية كانوا يعملون عليها. وقد عبّر مارك زوكربيرغ عن ذلك بقوله: «لا أنصح أحدًا بأن يترك دراسته إلا إذا كان لديه فكرة قوية وفريق حقيقي ومؤشرات نجاح واضحة». كما قال بيل غيتس في خطابه الشهير في جامعة هارفارد: «لقد تركت الجامعة لأبدأ شركة، لكني تعلمت هنا ما جعلني أنجح. هذه القاعات علمتني كيف أتعلم». وهذا القول يؤكد أن فضل الجامعة لا يُختصر في الشهادة، بل في ما تزرعه من وعي ومعرفة وقدرة على التعلم الذاتي. وقد يربط البعض بين البطالة وحملة الشهادات الجامعية، إلا أن أسباب البطالة متعددة، منها سوء اختيار التخصص، وضعف المواءمة بين التعليم وسوق العمل. ولست هنا بصدد مناقشة موضوع البطالة وأسبابه، إلا أنه ومع ذلك تبقى الجامعة طريقًا أساسيًا لبناء المستقبل، لأنها تمنح صاحبها أدوات التفكير والتطوير لا مجرد وظيفة. ومهما تغيّرت مصادر الكسب وتنوّعت سبل الرزق، سيظل التعليم الجامعي الركيزة الأهم في بناء الإنسان وفتح آفاق النجاح أمامه. فكلما أحسن الطالب اختيار تخصصه بما يتوافق مع احتياجات سوق العمل، ازدادت فرصه في النجاح والاستقرار المهني. أما الاعتماد على ضربة حظ في تطبيقات التواصل الاجتماعي، فليس إلا طريقًا قصير النظر، لأن النجاح الحقيقي لا يتحقق بالمصادفة، بل بالعلم، والاجتهاد، والتخطيط الواعي للمستقبل.