يُعد محمد حسين زيدان واحداً من أبرز أعلام الفكر والأدب والتاريخ في المملكة خلال القرن العشرين، وُلد في المدينةالمنورة عام 1324ه / 1906م، ونشأ في بيئة علمية وثقافية كان لها أثر عميق في تكوين شخصيته الفكرية، فقد جمع بين صفات الأديب والشاعر، والمؤرخ الفيلسوف، كما كان خطيباً مفوهاً، ونسّابة عارفاً بأنساب العرب، ومؤرخاً مولعاً بسيرة القبائل وتاريخها، إضافة إلى اهتمامه العميق بالتاريخ الإسلامي وحضارته. اتسم محمد زيدان بقدرة فريدة على الجمع بين المعارف المتنوعة، فكان واسع الاطلاع في الفقه والحديث وعلوم الإناسة، وبرز في المنابر الثقافية والإعلامية كأحد وجوه النهضة الفكرية في الحجاز، حيث ساهم في إثراء الخطاب النهضوي في مرحلة انتقالية حساسة شهدتها المملكة والمنطقة العربية. كان اجتماعياً يحب المجالس واللقاءات، وله حضور طاغٍ في الندوات والمحافل، وكان بيته في مكةالمكرمة ثم في جدة مجلساً مفتوحاً للأدباء والطلاب والباحثين، وقد اتصف بالتواضع والبساطة في حياته اليومية، على الرغم من المناصب الكبيرة التي تقلدها، ولا ينسى المشاهدون برامجه في التلفزيون عن سير الصحابة وسير أبطال التاريخ الإسلامي بصوته العذب الهادئ السلس البسيط، لا تعقيد فيه ولا إبهام، وكان يتدفق بمعلوماته الكثيرة وموسوعيته الفذة. حوش خميس نشأ محمد زيدان -رحمه الله- في المدينةالمنورة بحوش خميس، وقد فقد والدته وهو طفل صغير، فتولت تربيته جدته ميثاء الضويان، بدأ تعلم القراءة في سوق الحراج، ثم التحق بكتّاب الشيخ محمد الموشي، وهو أحد الكتاتيب الشهيرة في المدينة، ثم انتقل به والده إلى ينبع النخل ثم إلى ينبع البحر، في ينبع التحق شخصيتنا بالمدرسة النظامية الابتدائية، وتلقى العلم على يد نخبة من المعلمين مثل الشيخ محمد بصيل، ثم انتقل إلى مدرسة أخرى يديرها أحمد أبو بكر حمد الله، وهناك زامل عدداً من أبناء جيله الذين أصبحوا فيما بعد من أعلام المجتمع الحجازي مثل إبراهيم زارع وحمزة فرهود، ومع عودته إلى المدينة، واصل شخصيتنا تعليمه في كتّاب القشاشي عند الشيخ حسن صقر، ومن هناك التحق بالمدرسة الراقية الهاشمية المعروفة ب»العبدلية»، والتي كانت من أبرز المدارس الحديثة في الحجاز آنذاك، وقد درس شخصيتنا على أيدي نخبة من الأساتذة مثل محمد صقر، ماجد عشقي، ومحمد الكتامي، وتخرج عام 1342ه ليكون ضمن الدفعة الأولى التي أتمت تعليمها في تلك المدرسة. شرعية وعربية بعد تخرج محمد زيدان -رحمه الله- نهل من حلقات المسجد النبوي الشريف حيث تلقى العلوم الشرعية واللغة العربية، قبل أن يشرع في مسيرته العملية التي تنوعت بين التعليم والإدارة والصحافة، وبدأ شخصيتنا حياته العملية في التعليم، حيث عُين مساعداً للشيخ عبد القادر شلبي في المدرسة الجوهرية، ثم مدرساً في دار الأيتام بالمدينةالمنورة، ومنها إلى مكةالمكرمة بعد دمج الدارين، وكان يدرّس الجغرافيا والسيرة النبوية والعقيدة السلفية، وترك بصمة واضحة في أجيال من الطلاب، ولاحقاً، تنقل شخصيتنا بين عدد كبير من الوظائف الإدارية، فعمل في وزارة المالية، حيث شغل مناصب عدة مثل رئيس قسم الحسابات، ومدير مالية مكة، ومفتش عام لإدارة الحج، وممثلاً للمالية بوزارة الداخلية، كما كان سكرتيراً للجنة مطوفي الجاوة، وهو ما يوضح مدى انفتاحه على الجاليات الإسلامية في مكة. صحفي ومفكر إلى جانب عمله الحكومي، برز محمد زيدان -رحمه الله- كصحفي ومفكر، فكان أحد أعضاء هيئة تحرير جريدة المدينةالمنورة منذ صدورها عام 1937م، وأرسل مقالاته لجريدة صوت الحجاز التي كانت منابر رائدة في الصحافة السعودية، لاحقاً تولى رئاسة تحرير صحيفتي البلاد والندوة، وأشرف على مجلة الدارة التابعة لدارة الملك عبد العزيز، حيث جمع بين العمل الصحفي والبحث التاريخي الرصين، وتميز شخصيتنا بلغته المشرقة، فقد كان يكتب بأسلوب يجمع بين عمق الفلسفة وثراء الأدب، كان يجنح أحياناً إلى النقد اللاذع مع احتفاظه بروح الأدب، حتى لقّبه بعض معاصريه ب»المفكر المشاكس»، كان يؤمن بأن التاريخ ليس مجرد أحداث، بل هو «تجربة إنسانية متكاملة»، لذلك كان يربط الماضي بالحاضر ليخرج بعِبَر ومفاهيم معاصرة، كان يرى أن الكتابة أمانة ورسالة، وليست مهنة للتكسب أو الترف، ولذلك كتب في قضايا فكرية واجتماعية وسياسية حساسة، ومنها موقفه من قضية فلسطين، والنهضة الإسلامية، والعلاقة بين العرب والغرب، وكان شخصيتنا ينتقد أسلوب «النقل الأعمى» في كتابة التاريخ، ويدعو إلى توثيق الأحداث بالرجوع إلى المصادر الأصلية، مع استخدام المنهج التحليلي. يميل إلى التأمل لم يكن محمد زيدان -رحمه الله- مجرد مؤرخ، بل كان فيلسوفاً بالمعنى الواسع للكلمة، فقد تساءل كثيراً عن معنى الحياة، والهوية، والتقدم، وكان يميل إلى التأمل في التاريخ كرحلة إنسانية تبحث عن العدل والقيم، وقد حملت مقالاته المتأخرة طابعاً تأملياً عميقاً، اقترب فيها من أسلوب «الخاطرة الفلسفية» التي تمزج التجربة الشخصية بالرؤية الفكرية، لقد خلّف شخصيتنا إرثاً أدبياً وفكرياً ضخماً، إذ بلغت مؤلفاته أكثر من 18 كتاباً تناولت موضوعات متنوعة بين التاريخ الإسلامي، والسيرة، والفكر العربي، والأدب، ومن أبرزها (ذكريات العهود الثلاثة 1988م)، كتاب مهم وثّق فيه ثلاثة عهود سياسية شهدتها المدينةالمنورة: العثماني، والهاشمي، والسعودي، وهي سيرة ذاتية بسّط فيها القول وأسهب فيها بالكلام في هذه العصور التي ذكرها في كتابه، وقد طُبعت طبعتان فيما أعلم، كذلك كتاب (سيرة بطل 1967م)، وجمع فيه سير شخصيات بارزة، واستلهم من التاريخ الإسلامي نماذج البطولة، وكتاب (المنهج المثالي لكتابة تاريخنا 1978م)، وهو دراسة نقدية عميقة في منهجية كتابة التاريخ العربي والإسلامي، إضافةً إلى كتاب (أحاديث وقضايا حول الشرق الأوسط 1983م)، وتناول فيه قضايا سياسية وفكرية معاصرة، إلى جانب كتب مثل (مع الأيام)، (المخلاة)، (كلمة ونصف)، و(عبدالعزيز والكيان الكبير). صدى واسع وقدم محمد زيدان -رحمه الله- برامج إذاعية وتلفزيونية لاقت صدى واسعاً، أبرزها برنامج سير الصحابة الذي عُرض لسنوات طويلة في شهر رمضان، ثم جمع مادته في كتاب يحمل اسم سيرة بطل، كما قدم برنامج كلمة ونصف عبر إذاعة السعودية، وبرنامج مواقف مشرقة الذي ارتبط بذاكرة المستمعين، ولم يكن شخصيتنا مجرد موظف إداري أو كاتب صحفي، بل كان واحداً من الأصوات الفكرية البارزة في السعودية، امتاز أسلوبه بالجمع بين عمق الفقيه ودقة المؤرخ وبلاغة الأديب، وقد كان يكتب بروح ناقدة، داعياً إلى النهضة الفكرية والوعي بالهوية العربية الإسلامية، وقد تركت كتاباته ومقالاته أثراً كبيراً في المشهد الثقافي، خاصة أنه عاش في فترة مفصلية شهدت تحولات سياسية واجتماعية كبرى في المملكة والمنطقة، من انهيار الدولة العثمانية إلى بروز الدولة السعودية الحديثة، وصفه المفكر السعودي عبد الله الجفري بأنه «زوربا القرن العشرين»، في إشارة إلى شخصيته المتقدة بالحيوية والبحث عن المعنى العميق للحياة، واعتبره الباحثون أحد أبرز رواد الفكر السعودي النهضوي، إلى جانب شخصيات مثل حمد الجاسر وعبد القدوس الأنصاري، وأحمد عبد الغفور عطار، وقد كان شخصيتنا صديقاً لعدد من كبار الأدباء في العالم العربي، وتواصل مع مثقفين مصريين ولبنانيين وسوريين، ما جعله همزة وصل بين الثقافة السعودية والمحيط العربي. أساليب جديدة وكان محمد زيدان -رحمه الله- مؤمناً بفكرة الوحدة الإسلامية، لذلك دعا إلى «مؤتمر إسلامي عالمي» يكون بمثابة برلمان للمسلمين، يلتقون فيه لمناقشة قضاياهم الكبرى وذلك من خلال رابطة العالم الإسلامي، فلم يكن شخصيتنا مجرد رئيس تحرير، بل كان ممن وضعوا اللبنات الأولى للصحافة السعودية الحديثة. فقد أدخل أساليب تحريرية جديدة تعتمد على المقال الرأي والتحقيق الصحفي، لا مجرد الأخبار، لقد ساهم شخصيتنا في تكوين جيل من الصحفيين الشباب الذين صاروا فيما بعد أعمدة الصحافة السعودية، وقد كان له تأثير واسع عبر برامجه الإذاعية والتلفزيونية، إذ ارتبطت ذاكرة أجيال من السعوديين ببرنامجه سير الصحابة في رمضان، وقد وصف بعض المستمعين صوته بأنه «أقرب إلى نبرة الحكيم الذي يسرد دروس الحياة»، كما أن كتابه (المخلاة) عُدّ من أجمل ما كتب في فن المقالة، حيث جمع فيه خواطر وتأملات ومقالات قصيرة، تعكس روح المثقف الذي يعيش قضايا مجتمعه. مزيج فريد واهتم عدد من الأدباء والباحثين بكتابة دراسات عنه بعد وفاته، منها كتاب «الزيدان زوربا القرن العشرين» لعبدالله الجفري 1992م، و(قب الميزان في معلم الصبيان) لمصطفى أمين جاهين 1993م، كما تناولت سيرته كتب ودراسات أكاديمية مثل «السيرة الذاتية في الأدب السعودي» لعبد الله الحيدري، و(موسوعة الأدباء السعوديين في ستين عاماً) لأحمد سعيد بن سلم، وغيرها من المعاجم التي تناولت الأدباء السعوديين، فشخصيتنا أحد الرواد في الفكر والتاريخ والصحافة، وقد امتاز -رحمه الله- بالتحليل المنطقي للشخصية الإسلامية التاريخية، وللتاريخ عموماً، وهو صاحب مدرسة في التاريخ، قوامها مناقشة كل ما ورد في التاريخ، قال عنه الباحث عبدالله الحيدري في كتابه عن السيرة الذاتية السعودية: «كان شخصيتنا يجمع بين روح المؤرخ ودقة الصحفي وخيال الأديب، ولذلك جاءت سيرته وأعماله مزيجاً فريداً يصعب تصنيفه ضمن قالب واحد»، ووصفه أقرانه بأنه «ذاكرة المدينةالمنورة» لما كان يحفظه من تفاصيل دقيقة عن الحياة الاجتماعية والسياسية فيها. ثروة فكرية ولمحمد زيدان -رحمه الله-أبناء وأحفاد حافظوا على سيرته وتركوا شهادات عنه، ومن أبرزهم ابنه حسين زيدان الذي نشر لاحقاً بعض مقالاته وأعماله التي لم تطبع، وما زال بيته ومكتبته في المدينةومكة محل اهتمام الباحثين، حيث تحتوي على مخطوطات وكتب نادرة، وعن وفاته أصيب في سنواته الأخيرة بمرض أقعده عن بعض أنشطته، لكنه ظل قريباً من الساحة الثقافية عبر مقالاته وكتبه، وفي صباح السبت 29 شوال 1412ه -الموافق 2 مايو 1992م- توفي تاركاً إرثاً فكرياً وأدبياً كبيراً، وذكراً عاطراً في قلوب محبيه وتلامذته، لقد كان شخصيتنا مدرسة قائمة بذاتها، جمعت بين الفكر والأدب والتاريخ، وبين العمل الصحفي والإداري، وترك وراءه ثروة فكرية وأدبية لا تزال محل دراسة واهتمام. محمد حسين زيدان «رحمه الله» حملت مقالاته طابعاً تأملياً عميقاً يلقي إحدى المحاضرات أيام الشباب مع أصدقائه في المدينة كتاب من تأليف محمد زيدان العهود الثلاثة لمحمد زيدان إعداد- صلاح الزامل