في خضم التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه العالم، تبرز الإحصاءات كأداة لا غنى عنها لفهم الواقع ورسم المستقبل، وفي مناسبة اليوم العالمي للإحصاء، نتذكر كلمة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – خلال مبادرة مستقبل الاستثمار (FII) التي احتضنتها الرياض عام 2018: "أطلب من الجميع ألا يصدقوني.. انظروا إلى الأرقام هي التي تتحدث"، وهذه العبارة ليست مجرد دعوة للشفافية، بل هي فلسفة عميقة تعكس أهمية البيانات كمعيار حقيقي للتقدم وصنع القرار. الإحصاءات في نظر البعض مجرد أرقام جافة، والحقيقة أنّها هي لغة المستقبل، التي تترجم الطموحات إلى واقع ملموس، ففي الاقتصاد، تلعب البيانات دورًا محوريًا في رسم السياسات النقدية والمالية، وتوجيه الاستثمارات، وتقييم الأداء. لكن دورها لا يتوقف عند هذا الحد؛ فهي أيضًا أداة شاملة لبناء مجتمعات أكثر استدامة وعدالة، خاصة في مجالات حيوية مثل السياسات العمرانية والإسكانية. في السعودية، نلاحظ اليوم كيف تساهم الإحصاءات في رصد ومتابعة أسعار الأراضي والإيجارات في المدن الكبرى مثل الرياض، سواء من خلال الهيئة العامة للإحصاء أو منصات الهيئة العامة للعقار. و هذه البيانات تعدّ حجر الأساس لسياسات تلامس حياة الناس بشكل يومي، فهي تساعد في تحديد الفجوات الإسكانية، وتوجيه الدعم للفئات الأكثر احتياجًا، مثل ذوي الدخل المحدود، مما يعزز العدالة الاجتماعية ويحقق التوازن في السوق العقاري. وبصورة أكثر تحديداً، عندما نتحدث عن الإحصاءات في السياق العمراني والإسكاني، ندرك أنها أكبر من مجرد أدوات تقنية، فهي مفاتيح لحل مشكلات حقيقية، إذ تساعد في تخطيط المدن بشكل مستدام، وتضمن أن تكون السياسات الإسكانية شاملة وعادلة. وعلى سبيل المثال، البيانات الدقيقة عن الكثافة السكانية، ومعدل زيادة الإيجارات، وتوزيع الدخل، تمكن صناع القرار من تحديد المناطق التي تحتاج إلى تطوير إسكاني أو خدمات بنية تحتية؛ مما يقلل من الفوارق بين المناطق ويحسن جودة الحياة للجميع. كما أن الإحصاءات تلعب دورًا حيويًا في تعزيز الشفافية والمساءلة، وعندما تُنشر بيانات مثل نسب الإمتثال في المخططات تقسيمات الأراضي، أو معدلات المحتوى المحلي في العقود والمشتريات، أو مؤشرات المعروض السكني الجديد، يصبح المجتمع قادرًا على مراقبة أداء الحكومة على جميع المستويات (وطني – مناطق – مدن) ومطالبتها بالتحسين عند الضرورة، هذا الضغط المجتمعي المدعوم بالبيانات يدفع نحو سياسات أكثر فعالية وانضباطًا. وفي سياق رؤية السعودية 2030، أصبحت الإحصاءات في الواقع أكثر أهمية من أي وقت مضى، حيث أنّها الأداة التي تقيس التقدم نحو الأهداف الطموحة، مثل رفع مساهمة الخاص في الناتج المحلي الإجمالي، ورفع نسبة تملك الأسر إلى 70% بحلول عام 2030، وتحسين مؤشرات جودة الحياة وقابلية العيش، فبدون بيانات دقيقة وموثوقة، سيكون من الصعب تقييم هذا التقدم أو توجيه الجهود نحو المجالات التي تحتاج إلى مزيد من الدعم. ختامًا، في زمن تتسارع فيه التحولات، وتتعاظم فيه التحديات الاقتصادية والاجتماعية، تبرز الحاجة إلى الإحصاء بوصفه أداة للتوازن بين الرؤية والواقع، والتنبؤ بالتحديات، واتخاذ قرارات مبنية على الأدلة، وعندما نستثمر في أنظمة إحصائية قوية، نستثمر في مستقبل أفضل للجميع.. فلنستمع إلى حديث الأرقام، لأنه هو الذي سيقودنا نحو الغد الذي نطمح إليه.