مدخل: حين تصبح الصورة أبلغ من البيان في عالمٍ تُدار فيه السياسات من خلف الشاشات، وتُصاغ الانطباعات في لحظة، لم تعد الدبلوماسية العامة ترفا نظريا، بل أصبحت ركيزة من ركائز القوة الوطنية للدول. فالإعلام اليوم لم يعد ناقلا للحدث، بل أصبح شريكا في صناعته، وركنا أساسيا في صياغة السياسات، وتشكيل الصورة الذهنية للدول والمجتمعات. تحول المفهوم: من القاعات المغلقة إلى الفضاء المفتوح لقد خرجت الدبلوماسية من أسوار المكاتب المغلقة لتعيش في فضاء مفتوح، يتقاطع فيه الرسمي بالشعبي، وتتفاعل فيه السياسة مع الإعلام في مشهد رقميٍّ سريع الإيقاع. وكما قال المفكر الأميركي جوزيف ناي: "القوة ليست فيما تفرضه، بل فيما تجذب إليه". ومن هنا أصبحت الدبلوماسية العامة هي فن الجاذبية السياسية، وقوة الإقناع الثقافي، والقدرة على بناء صورة وطنية تستند إلى المصداقية والقيم، لا إلى الخطاب الدعائي. الإعلام كقوة ناعمة للدبلوماسية قال فخامة رئيس جمهورية جيبوتي إسماعيل عمر جيله: «الإعلام ليس مرآة للأحداث فحسب، بل هو أداةٌ للتنمية ووسيلةٌ لتقريب الشعوب، وبقدر ما يكون الإعلام مسؤولا وواعيا، تكون الدبلوماسية أكثر نجاحا وتأثيرا». وهذه الرؤية تعبّر عن إدراك عميق لدور الإعلام في صنع التنمية والوعي والسلام، وهو الدور الذي لا ينفصل عن جوهر الدبلوماسية العامة المعاصرة. وهو ما يلتقي مع رؤية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله- حين قال: «الإعلام الصادق شريك أساسي في التنمية، وجسر للتواصل مع العالم». فالإعلام الصادق والواعي هو الذي يبني الثقة، ويصنع الجسور، ويُحافظ على صورة الوطن في أذهان العالم. عام التأثير الإعلامي 2025: رؤية تتحدث بلغة العالم إعلان عام 2025 عاما للتأثير الإعلامي في المملكة العربية السعودية لم يكن مجرد شعار احتفالي، بل تجسيدٌ عملي لفلسفة رؤية السعودية 2030 التي استوعبت مبكرا أهمية الإعلام كقوة ناعمة وركيزة للتنمية، وجسر للتواصل الدولي. لقد أدركت المملكة أن الصورة أضحت جزءا من قوتها الوطنية، وأن الإعلام الحديث هو المنصة الأوسع لنقل منجزاتها ورؤاها، والتعبير عن تحوّلها التاريخي في المشهدين الإقليمي والعالمي. الإعلام العالمي كأداة لصناعة المكانة لقد أثبتت تجارب عددٍ من الدول أن الإعلام يمكن أن يكون أداة استراتيجية لصياغة النفوذ وبناء المكانة الدولية: * المملكة المتحدة وظفت (BBC) لتكون صوتها العالمي منذ الحرب العالمية الثانية. * الصين من خلال (CGTN) ربطت خطابها التنموي بحضورها الإعلامي الدولي. * روسيا استثمرت (RT) في نشر رؤيتها الجيوسياسية. * كوريا الجنوبية جعلت من ثقافتها الشعبية (K-Pop) أداة دبلوماسية عالمية. * الأميركية (CNN) استُخدمت في الأوقات الضرورية لتعكس للعالم الأخبار المنتقاة بالصيغة المبتغاة. هذه التجارب تؤكد أن من يملك القصة يملك التأثير، ومن يملك المنصة يملك القدرة على صياغة الوعي العالمي. نموذج سعودي ملهم.. الإعلام في خدمة الرؤية لقد أصبحت الرياض اليوم مركزا عربيا ودوليا لصناعة الصورة الجديدة للمنطقة، عبر مبادراتٍ إعلامية نوعية ومنصات رقمية حديثة تنقل للعالم روح رؤية السعودية 2030 بلغة عصرية وإنسانية تجمع بين المضمون والمصداقية. وفي هذا الإطار، يمثّل عام التأثير الإعلامي 2025 عنوانا رمزيا لمرحلة جديدة من الوعي بدور الإعلام كقوة ناعمة وشريك فاعل في تحقيق التنمية وتعزيز مكانة المملكة على الساحة الدولية. ومن أبرز ملامح هذا التحوّل الإعلامي النوعي، انتقال القنوات السعودية مثل "العربية" و"العربية الحدث" و"MBC" إلى البث من العاصمة الرياض، في خطوة تعبّر عن الثقة في القدرات الوطنية والبنية التحتية الإعلامية المتقدمة، وتكرّس موقع الرياض كعاصمة إقليمية للإنتاج والبث والتأثير الإعلامي، لقد غدت الرياض قلبا نابضا يتقاطع فيه القرار السياسي بالحضور الإعلامي، بما يعكس نضوج التجربة السعودية واتساع آفاقها نحو العالمية. إنها نقلةٌ نوعية تؤكد أن الإعلام السعودي لا يواكب العصر فحسب، بل يصنع ملامحه المستقبلية. وفي سياق هذا التطور، تبقى صحيفة الرياض، تلك المنارة العريقة في عالم الصحافة العربية والسعودية، نموذجا للرصانة المهنية والوعي الوطني، وهي منبرٌ أعتزّ شخصيًا بالكتابة فيه، لما تمثله من تاريخ إعلامي أصيل، ودور ريادي في نقل التحولات الفكرية والتنموية التي تشهدها المملكة والعالم العربي. القوة الناعمة.. حين تتكلم القيم بدل السلاح إن جوهر الدبلوماسية العامة هو كسب العقول والقلوب، لا السيطرة على المواقف. القوة الناعمة الحقيقية تُقاس بمدى احترام العالم لثقافة الدولة، وبالثقة التي تبنيها عبر خطابها الإعلامي المتزن والصادق. ولهذا، فإن الاستثمار في الإعلام المسؤول هو استثمار في الأمن والسلام والاحترام المتبادل. "الخاتمة" نحو دبلوماسية تصنع الأثر لا الخبر في عالم تتغير فيه المفاهيم وتتنافس فيه الصور، أصبحت الدبلوماسية العامة والإعلام الرقمي وجهين لعملة واحدة: هو التأثير. ومن يمتلك أدوات الخطاب الإنساني الصادق يصنع مجده دون صخب، وكما قال صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل: «الكلمة أمانة، والإعلام رسالة، ومن يجمع بين الأمانة والرسالة يصنع أثراً لا يُنسى». وهكذا تصبح الدبلوماسية العامة، في جوهرها، رسالة حضارية تنقل قيم الشعوب إلى العالم، وتصنع أثرا أعمق من الحدث نفسه. * سفير جمهورية جيبوتي لدى المملكة