تحظى «العقل» في نفود الثويرات في محافظة الزلفي بأهمية تاريخية وأثرية، وتعد من القرى والمعالم الهامة في الزلفي، وقد تأسست بعضها مبكراً في القرن الرابع الهجري، و»العُقل» عبارة عن واحات أو تجمعات سكنية قديمة، تُسمى أيضاً «جِفار» وهي متناثرة في صحراء «نفود الثويرات»، وتتسم بأهميتها التاريخية وجمالها البيئي وسط الرمال، حيث تمثل مصدر حياة، ونقطة استقرار حياة وملاذ للمستوطنين والمسافرين، ومصدراً للمياه العذبة من آبارها الجوفية. ومعنى العقل: جمع «عقلة»، وهي واحة أو تجمع سكني صغير يقع في جوف الرمال وسط النفود، ويُشبهها الأهالي ب»عقال الراحلة» نسبةً للماء الذي يُستخرج من آبارها بالقرب من متناول اليد، وذلك لقربها من الماء، ونفود الثويرات عبارة عن كثبان رملية تمتد من شرق حائل مروراً بشرق القصيم وتحيط بمحافظة الزلفي من الشمال والغرب، وتشتهر بجمالها وكثرة الواحات فيها. وفي فصل الصيف تعد هذه العقل من أفضل المناطق السياحة في البيئية الرملية، وتُنظم لها رحلات سياحية على نطاق محدود، حيث تدعو تلك الواحات للاستمتاع بجمال الطبيعة وسط بحر من الرمال الذهبية رغم افتقارها للخدمات الأساسية، كذلك تجمع بين روعة النباتات البرية والزهور والورود الفواحة على الكثبان الرملية، ما يشكل لوحات جمالية طبيعية ساحرة. «الرياض» التقت الدكتور سليمان بن عبدالرحمن العنقري -من أهالي الزلفي- ليقدم للقراء تقريراً موجزاً عن أهمية «العقل» في محافظة الزلفي. واحات متناثرة * حدّثنا عن العقل؟ * العقل في الزلفي واحات متناثرة في نفود الثويرات ومعظمها يقع في شماله وكذلك في وسطه، والقليل منها يقع في جنوبه، وقد سكنتها أسر كثيرة عاشت فيها سنوات عديدة وأزمنة مديدة لا يعلم مداها إلاّ الله سبحانه وتعالى، ممتهنة الزراعة، وتربية الماشية، وقد تحدث علامة الجزيرة حمد الجاسر -رحمه الله- في مقال له في مجلة العرب عام 1412ه عن الْجِفَارُ -العقل- في محافظة الزلفي وقال إنهما اسمان لمسمى واحد كاد أولهما أن يُنسى لتقادم ما مر عليه من الأزمنة، وحل محله الاسم الثاني، ويوشك أن يُجهل أيضاً لكون أبرز مميزاته أصبح على درجة من الضعف، بحيث لا يبقى له أثر، وهو الماء الذي به عرف ويوشك أن ينضب، ولا حياة بفقد الماء، ولكي ندرك الصلة بين الكلمتين من حيث المعنى، يحسن أن نرجع إلى كتب اللغة، ثم إلى ما تعارف عليه عامة سكان هذه المواضع من معاني الكلمتين فالجفَارُ: لغةً جَمْعُ جُفْرَةٍ، والْجُفْرَةُ -الحُفْرة الواسعة المستديرة-، وهي البئر التي لم تطو، جمعها جُفَرٌ وجِفَارٌ، ومنها الأجْفُر -بضم الفاء -البلدة المعروفة، والعُقْلة -في لهجة عامة أهل نجد- هي البئر القريبة الماء، التي ينزع ماؤها لقربه بعقال المطية، وهو الحبل الذي تُعْقَلُ به يَدُهَا لِئَلا تغادر المكان، فقد كان يستقى به من الآبار القريبة الماء. تسمية ومواقع * كم يبلغ عدد هذه العقل وما أسماؤها؟، وتحديد مواقعها وأشهرها؟ * ذكر الشيخ عبدالله بن خميس -رحمه الله- صاحب معجم اليمامة ومعجم البلدان والقبائل في شبه الجزيرة العربية هذه العقل، وعددها نحو 70 عقلة تم تسميتها، وتحديد مواقعها وفقاً لبيان محافظة الزلفي وأشهرها الثوير، والمنسف، وأبو طرفات، والأثلة، وشلوان، وشليان، وكذلك الرحيه، ومعقرة، ومصده، وأم أرطى الشمالية، والمليحية، والمنيزلة، والبقمية، إضافةً إلى أرطاوية العقل الشمالية، والبعثية، والحمضية، والخل، والخليل، والعقلة، والبعيثة. وقد زار هذه العقل الرحالة جون جوردن لويمر صاحب كتابي دليل الخليج بقسميه الجغرافي والتاريخي -1908م- عند زيارته للزلفي، وكتب عن موقعها، وطبيعتها، ومن سكنها في وقت زيارته، ومن تلك العقل التي زارها وضمنها في دليله الجغرافي في الجزء السابع الثوير، والمنسف، وأبو طرفات، وأرطاوية الزلفي، والأثلة، وكذلك المر، والعِقْلة، والأميه، وزهلولة، والرحية، وشلوان، إضافةً إلى أم أرطى، وقصيبا، ومصكعة، والجوي، والمندسة، والهرار، وبيضاء نثيل، وعشيرة. عين جزرة * يقال أن هناك عين ماء بالقرب من تلك العقل في نفود الثويرات حدثنا عنها؟ * نعم في مدخل نفود الثويرات، وتحديداً في مدخلها الشمالي الشرقي توجد "عين جزرة" التاريخية، والتي يعود تاريخها إلى ما قبل الإسلام -العصر الجاهلي-، وهي أقدم عين في محافظة الزلفي ومياه هذه العين التي تجري طوال العام عذبة قراح تنبع من خلال وادي يحمل اسمها نهاية جبل طويق الشامخ، والذي يمتد لأكثر من 700 كم ابتداءً من عروق الربع الخالي بالقرب من محافظة وادي الدواسرجنوب شرق المملكة، ولا تزال تلك الواحات -العقل- متناثرة بعبقها التاريخي شاهدة على كفاح من عمرها وسكنها في ظروف بالغة الصعوبة، وليعلم القارئ الكريم أن هذه الأسطر المتواضعة عن جزء عزيز وغال من الوطن لا تتجاوز خواطر هيضتها لقطات مصورة ومعبرة عن بعض الواحات والمتناثرة في قلب نفود الثويرات ورمالها الذهبية، والتي تعرف، ب"العقل" الوادعة، بواحاتها الخضراء الآسرة، والآخذة بالألباب، والتابعة لمحافظة الزلفي الجميلة -عروس نجد الأبية-. محبة وألفة * ما المشاعر التي تنتابكم بين الفينة والأخرى حول تلك الواحات التي تركها أهلها الأصليين ونزحوا للمدن؟ * لقد استعادت ذاكرتي أحوال تلك الأطلال، وتناثرت أمام بصري وبصيرتي الكثير من الذكريات، وأُصبت بشيء من الكآبة والانكسار، أسفاً لما آلت إليه مرابع الكثير من الأسر الكريمة ذات الجذور العريقة، وكيف تبدلت الحال إلى ذلك المآل، فأردت أن أسجل مشاعر جياشة انتابتني، وأحاسيس هزت وجداني، من خلال مشاهدة تلك اللقطات الجميلة لتلك الواحات، متذكراً مروري عشرات المرات -بضيافة كريمة، وصحبة طيبة، ورفقة صالحة- مع أبناء وأحفاد أولئك الرجال الأفذاذ الذين قضوا حياتهم في زراعة وعمارة تلك الواحات بصبر وجد وجلد، وجهود لا تعرف الملل ولا الكلل، مع قلّة ذات اليد، وشظف في العيش خلال تلك الحقبة، لقد كانت الحياة -رغم قساوتها- في تلك الواحات أو ما يطلق عليها "العقل" بمسميات عقلها المختلفة والمتناثرة هنا وهناك بنخيلها الباسقة الجميلة وأشجارها وارفة الظلال، تقطنها وتعمرها الكثير من الأسر الكريمة بمختلف الأعمار من الأجداد والآباء والأبناء والأحفاد، بهدوء وحياة متزنة، يتوج ذلك ترابط بينها وتزاور، بل وتزاوج بين أسرها ومحبة وألفة وتعاون صادق، حتى جاء ذلك اليوم الذي فيه تفرق الشمل وتباعدت فيه المنازل، بل والديار، فهجرها أهلها طلباً لحياة أفضل وتعليم متميز لأبنائهم في مختلف المراحل الدراسية والحصول على أعلى الشهادات، مما مكنهم من المساهمة في نهضة الوطن بمختلف التخصصات، من قضاة وأساتذة جامعات وأطباء في تخصصات مختلفة، ومعلمين بجميع مراحل التعليم ووظائف عسكرية بمختلف القطاعات الحكومية في القوات المسلحة والحرس الوطني والأمن العام، إضافةً إلى الوظائف المدنية الأخرى، ناهيك عن الأعمال التجارية الناجحة والتي كان لهم قصب السبق فيها، والتي مارسها الكثير من أبناء تلك الواحات -العقل-. مبادرات وجهود * هل تتأملون أن تستعيد تلك العقل حياتها وحيوتها، والحفاظ على ما بقي من أطلال ومآثر تربط حاضرها بماضيها التاريخي الجميل؟ * نتيجة لذلك النزوح المتتابع والمؤلم أغلقت مدارسها ومراكزها الصحية، وسادها ظلام دامس، واستوطنت الغربان ما بقي من أطلال، وتحولت نخليها إلى أعجاز نخل خاوية، ومع يقيني أن الذي حصل هو من سنن الله الكونية، وتذكار وتذكر لما ستكون عليه ديارنا في يوم من الأيام حينما نغادر هذه الدنيا الفانية، ولكنها خواطر انتابتني حينما أمعنت النظر في تلك المقاطع التي تحكي حال تلك العقل وما آلت إليه في وقتنا الحاضر، فنثرتها في هذه الأسطر المتواضعة، مصحوبة بآلام ودموع ساكبة، ودعوات صادقة، بأن يرحم الرحمن الرحيم الراحلين من أهلها رجالاً ونساء، ممن عمروا تلك الديار أعواماً عديدة، وأزمنة مديدة، وأن يوفق الله من هم على قيد الحياة لكل خير ليعيدوا لتلك الديار حياتها وحيوتها وابتسامتها، وأن يحافظوا على ما بقي من أطلال ومآثر تربط حاضرها بماضيها بعبقه التاريخي الجميل، لتتذكر الأجيال المتعاقبة ما كان عليه سلفهم من قسوة الحياة وصعوبة العيش وشظفه، ليدعوا لهم ويترحموا عليهم، وهذا أقل ما يقدمونه لمن سبقوهم في زراعة وعمارة تلك الواحات المتجذرة والمتناثرة في نفود ثويرات الزلفي الحبيبة ورمالها الذهبية الجميلة، وهو -ولله الحمد- ما حصل فعلاً من بعض أبناء تلك الديار في أعوامنا الأخيرة، وهو ما تجدر الإشارة إليه والإشادة به بمبادرتهم المقدرة وجهودهم المشكورة -وإن كانت دون المأمول- بالعودة إلى مراتعهم السابقة، وبث الحياة في بعض تلك الواحات -أملاك الأجداد والآباء- وما حولها، وذلك بإعادة زراعتها وتشييد مبانٍ حديثة داخل أسوارها، ولعل هذا العمل المبارك من أولئك يكون بادرة طيبة، وفاتحة خير مشجعة وتمهيدَ طريق لمحبين آخرين ممن هجروا تلك المرابع ليحذوا حذوهم ويعيدوا الحياة وجمالها لتلك الواحات -مراتع الصبا- وفاء للأرض الطيبة ومن عمروها خلال الأعوام الخوالي من سلفهم الصالح. خضرة وحياة * هل تؤيدون أهمية تحويل هذه العقل لوجهات سياحية لما تتميز به مقومات طبيعية؟ * العقل في نفوذ الثويرات بالزلفي، تتشكل من كثبان رملية ذهبية، وعندما يهطل المطر في فصل الربيع، تتحول إلى واحات خضراء صغيرة وسط الصحراء، ومعنى "العقل" كما ذكرت لك عبارة عن تجمعات مائية في باطن الأرض تسمح لعروق النبات بالتسلل للمياه الجوفية لتعيد الخضرة والحياة لصحراء العقل، كما تهطل الأمطار وتتكاثر فيها النباتات والأعشاب، ما يغير لون الرمال الذهبية فتتحول إلى بقع خضراء نابضة بالحياة بعد هطول المطر، ما يجعلها منطقة جاذبة للسياحة أو الاستكشاف في فصل الربيع، والأمل معقود بوزارة السياحة وهي المسؤولة عن السياحة في وطننا الغالي لتكون لها التفاتة جادة لتلك الواحات الخضراء الرابضة في قلب تلك الرمال الذهبية للعمل على تطويرها وتهيئتها من جميع النواحي المطلوبة والجاذبة للسياحة والسواح من الداخل والخارج، وتشجيع الأهالي على المساهمة فيما من شأنه جذب محبي السياحة، والتي أصبحت صناعة عالمية، وتهيئة سبل الراحة لهم من تشييد نزل حديثة ومريحة لخلق جو سياحي في تلك الواحات ذات المناظر الفريدة والخلابة برمالها الذهبية طوال العام، وفي فصلي الشتاء والربيع بصفة خاصة تزهر رمالها وواحاتها بالخضرة وتكسوها الأعشاب المتنوعة بلوحة جميلة تحيط بتلك الواحات المتناثرة على تلك الرمال الذهبية بمناظر تأخذ بالألباب. قرى ومعالم ونخيل الأشجار وسط الرمال د. سليمان العنقري