حين قال وزير الإعلام سلمان الدوسري: "نحن نضبط المشهد ولا نتحكّم فيه"، لم يكن يطلق عبارة عابرة، بل يرسم معادلة دقيقة بين الحرية والمسؤولية. فالإعلام في رؤيته ليس ساحة فوضى، ولا مساحة خاضعة للوصاية، بل فضاء حرّ منضبط بضوابط المهنة والأخلاق العامة. التحوّل المؤسسي من "هيئة الإعلام المرئي والمسموع" إلى "الهيئة العامة لتنظيم الإعلام" يعكس هذا التوازن. فالمهمة لم تعد رقابية فقط، بل تمكينية أيضاً، تسعى إلى تنظيم القطاع كمنظومة اقتصادية وثقافية متكاملة. ومع كل تحديث تنظيمي أو لائحة جديدة، تتجدد النقاشات حول حدود الحرية وأدوات الضبط، خاصة بعد إعادة تفعيل ضوابط صُنّاع المحتوى والمؤثرين. هذه الضوابط ليست جديدة بالغالب، بل تأكيد على ما هو قائم، وضبط لوتيرة التطور السريع في بيئة رقمية تتغير كل يوم. التحدي الحقيقي ليس في وجود الضوابط، بل في كيفية تطبيقها بعدالة واتزان. فكلما ازدادت اللوائح وضوحاً، ازدادت احتمالات التأويل وسوء الاستخدام. المطلوب هو تطبيق ذكي يحمي التنوع ويصون النقد المسؤول من أن يتحول إلى ضحية لتفسيرات متشددة أو حملات انتقائية. الضبط لا يعني الكبح، بل بناء ثقة بين المهنة والجمهور والمؤسسات، ثقة لا تقوم إلا على استقلالية مهنية وشفافية في القرار ووضوح في الإجراءات. التجربة السعودية اليوم ترسم نموذجاً خاصاً لا يشبه القوالب الغربية الجاهزة، فهي تمزج بين "المسؤولية الاجتماعية" و"الاحتراف المؤسسي"، حيث تُعامل حرية الإعلام كجزء من مشروع وطني أوسع. ومع ذلك، تبقى المعادلة ناقصة من دون وعي الجمهور نفسه. فالمسؤولية لا تتوقف عند الوزارة أو الهيئة، بل تبدأ من المتلقي الذي يختار ما يشاهد وما يدعم. البعض يريد من الوزارة أن تختار له، متناسين أن زمن الوصاية الفكرية انتهى وولّى دون رجعة. اليوم ومع اتساع الخيارات وارتفاع سقف الحرية المنضبطة، الرهان الحقيقي على الوعي لا على المنع، وعلى الذائقة لا على الرقابة.. فالإعلام الحر لا تصنعه القوانين وحدها، بل جمهور ناضج يفرز الغثّ من السمين، ويصنع من الضبط توازناً لا قيداً، ومن الحرية مسؤولية لا فوضى.