بينما يتجول القارئ والزائر باحثًا عن كتابٍ ليقتنيه، يدخل عالمًا أشبه بكوكب آخر على هذه الأرض، معرض الكتاب الذي يحمل في أرجائه العديد من القصص والحكايات التي تتحدث عن أصحابها. فهنا، لا تُعرض الكتب كسلعةٍ تُباع، بل كأرواحٍ نابضة بالحياة، لكل غلافٍ حكاية، ولكل عنوانٍ ذاكرة، ولكل جناحٍ سرٌ ينتظر من يكتشفه. في الممرات الطويلة، تتوزع الوجوه بين شغف الباحثين عن معرفة، وفرحة الأطفال وهم يختارون أول كتاب في حياتهم، وهدوء الكبار الذين يتأملون في نصوصٍ ربما رافقتهم منذ عقود، وبين جناحٍ وآخر تتكشف ملامح قصص إنسانية لا تقل جمالًا عن الحروف المطبوعة، قصص مؤلفين حلموا أن تصل كلماتهم إلى الناس وقصص ناشرين جعلوا من الورق جسرًا يربط الماضي بالمستقبل. وهنا في قلب هذا الزخم، تتحول المعارض إلى أكثر من حدث ثقافي؛ إنها لوحة إنسانية كبرى، تتداخل فيها المشاعر بين شوق القارئ، وحلم الكاتب، واعتزاز الزائر بأن يكون جزءًا من هذه الرحلة. وفي كل زاوية، يهمس المكان بأن الكتاب ليس مجرد ورق، بل حياة تتنفس بين الأرفف. وما أن يكمل الزائر المسير في هذه الرحلة، حتى يلفت نظره جناح صغير يحمل بين جدرانه قصة أكبر من الكتب التي تملؤه، إنها قصة ابنة تحمل على عاتقها إرثًا أثمن من أي كتاب، إرث والدها الذي رحل قبل أشهر قليلة، لكنه ترك خلفه دار نشرٍ اعتادت أن تكون حاضرة في المعرض عامًا بعد عام. رهف الدهام، ابنة في عمر الزهور تكمل حلمًا لم يكن حديث العهد، بدأه والدها "داوود الدهام" في عام 2019م، وجعل منه دار نشرٍ ارتبطت بذاكرة القراء وزوار المعارض عامًا بعد عام، اليوم تقف في الجناح الذي ورثته عنه، تنظم الكتب على الرفوف، تستقبل الزوار بابتسامة واثقة، لكنها تحمل في قلبها مزيجًا من الحنين والمسؤولية. كل زاوية في الجناح تحكي قصة والدها، وكل رف يحمل ذكرياته، وكل كتاب يروي جزءًا من رؤيته وثقافته. بين زحام المعرض، يلمح الزائر في رهف قوة الإصرار وعذوبة الوفاء، كيف يحول الشخص ألم الغياب إلى قوة تدفع الحياة للأمام، وأن يجعل من إرثٍ غائب روحًا حاضرة تضيء المكان هنا، لم يعد الجناح مجرد مساحة للعرض، بل أصبح رمزًا لاستمرارية الحلم، وجسرًا يربط الماضي بالحاضر، ودليلًا حيًا على أن الثقافة لا تنطفئ برحيل أصحابها، بل تجد من يواصل إشعالها بكل حب ووفاء. وتذكر رهف: واجهت صعوبات كثيرة في البداية، خصوصًا بحكم طبيعة العمل وتفاصيله، لكن بدعم العائلة وتشجيعهم استطعت أن أواصل الطريق الذي بدأه والدي. تقسمت المهام بيننا، وكل فرد أصبح له دور في إدارة الدار وتطويرها، إلى أن أصبحت تحمل اسم عمي فيصل الدهام. ومنذ تأسيسها، تحرص الدار على المشاركة في معارض الكتاب داخل المملكة وخارجها، ممثلةً الناشرين السعوديين، وساعيةً لنشر المعرفة والثقافة للأجيال القادمة، مع الحفاظ على هوية الدار التي انطلقت من شغف العائلة بالكتب والإرث الثقافي. كما تؤكد: ونسعى اليوم إلى مواصلة المسيرة وتحقيق الرؤية التي كان يحلم بها مؤسس الدار -رحمه الله- بأن تكون منبرًا ثقافيًا يسهم في نشر المعرفة، ودعم المؤلفين، والارتقاء بصناعة النشر في المملكة. نعمل بروح من الإصرار والمسؤولية للحفاظ على إرثه واستكمال ما بدأه بروحٍ طموحة نحو مزيدٍ من التطور والتميز. وهكذا، لم يكن جناح دار النشر هذا العام مجرد مساحةٍ تُعرض فيها الكتب، بل كان حكاية وفاء تُروى بين الممرات. قصة ابنةٍ حملت على كتفيها حلم والدها، وأثبتت أن الثقافة ليست ملكًا لأفراد، بل ميراثٌ خالد ينتقل بالحب والوفاء. وفي قلب هذا المعرض، وسط ضجيج الزوار وتنوع الأجنحة، كان هناك جناح واحد يهمس بأن بعض الغياب لا يطفئ الحكاية، بل يشعلها من جديد.