لم يعد كافيًا للمؤسسات أن تتكئ على نجاحات الماضي أو أن تتمسك بالنماذج الإدارية التقليدية. فالعولمة والتحولات الرقمية والتنافسية المتصاعدة وضغوط أصحاب المصلحة جعلت من الضروري إعادة التفكير في كيفية إدارة المنظمات وضمان استدامتها. وفي هذا السياق يبرز مفهوما الحوكمة المؤسسية والتطوير المؤسسي كجناحين متكاملين، يضبط أحدهما إيقاع الانضباط، فيما يطلق الآخر طاقات الابتكار، وبالتكامل بينهما تستطيع المؤسسات أن تواجه المستقبل بثقة. الحوكمة هنا ليست لوائح جامدة ولا مصطلحات مكررة، بل هي ثقافة تنظم علاقة المؤسسة بمحيطها، وتحدد كيف تُتخذ القرارات، وكيف يُحاسب المسؤولون ويطوّرون أداءهم، وكيف تُدار الموارد بكفاءة لخدمة جميع الأطراف. قيم الشفافية والمساءلة والمساواة وحماية الحقوق ليست مجرد شعارات، بل أنظمة مؤسسية راسخة تجعل المؤسسات أقل اعتمادًا على الأفراد وأكثر قدرة على الصمود أمام الأزمات. وحين تلتقي الحوكمة بالتطوير، ويضاف إليهما الابتكار، تتشكل منظومة متكاملة قادرة على فتح الآفاق وصناعة المستقبل. غير أن الحوكمة وحدها لا تكفي. فالمؤسسات لا تعمل في فراغ بل في بيئة متغيرة تستلزم التكيف المستمر. وهنا يظهر دور التطوير المؤسسي الذي يتجاوز إعادة الهيكلة وتحسين الإجراءات، إلى بناء ثقافة تعلم دائمة، وتعزيز الكفاءة التشغيلية، وتشجيع الجرأة على التغيير. التجربة السعودية تؤكد ذلك، حيث تتوزع أدوار مراقبة الجودة بين جهات متعددة مثل هيئة المواصفات والمقاييس والجودة، وهيئة الغذاء والدواء، وهيئة التقويم في التعليم، والمركز الوطني لقياس الأداء. ورغم أهمية هذه الجهود، إلا أن الحاجة تبقى قائمة لجهاز مركزي يوحد المعايير وينسق الجهود حتى تتحرك القطاعات كافة في إطار واحد متسق مع رؤية 2030، لا بهدف الرقابة فقط بل لتأسيس بيئة محفزة على الابتكار وترسيخ ثقافة التميز. وإذا نظرنا إلى التاريخ سنجد شواهد ناطقة على أن المؤسسات التي تتجاهل التطوير تكتب نهايتها بيدها. فنوكيا وكوداك كانتا رمزين للنجاح ثم انهارتا لأنهما لم تستوعبا التحولات التكنولوجية. في المقابل صعدت شركات مثل تويوتا وجوجل وأمازون لأنها تبنت مفهوم التعلم المؤسسي، أي القدرة على تحويل الأخطاء إلى فرص، واعتبار التعلم المستمر جزءًا من الهوية لا مجرد نشاط تدريبي. هذا التباين يكشف الفرق بين مؤسسات تراهن على الماضي وأخرى تستشرف المستقبل. وهنا يطل مفهوم الابتكار الهدام، الذي يوضح كيف تفشل الشركات الكبرى حين تركز على تحسين منتجاتها الحالية بينما يظهر منافسون جدد بابتكارات بسيطة تستهدف شرائح مهملة وتتحول بسرعة إلى أسواق واسعة تقلب قواعد اللعبة. نتفلكس أطاحت ببلوكباستر، وأوبر أعادت تعريف النقل، وتسلا غيّرت صناعة السيارات. وهذه الدروس ليست بعيدة عن مؤسساتنا المحلية، التي تحتاج إلى التفكير بما يتجاوز تقارير الأداء والتصنيفات إلى البحث عن الفرص الصغيرة التي قد تبدو غير مجدية اليوم لكنها تحمل بذور الريادة غدًا. ولا يكتمل الحديث عن الحوكمة والتطوير دون التطرق إلى التقييم المؤسسي. فالتقييم هو المرآة التي تكشف مواطن القوة والضعف وتحدد الفجوات بين الواقع والمستهدف. وهو ليس إجراءً روتينيًا بل أداة استراتيجية لتوجيه القرارات. التجارب العالمية تثبت ذلك؛ فموتورولا عبر ستة سيجما وتويوتا عبر الإنتاج الرشيق أظهرتا أن جمع البيانات وتحليلها المستمر هو ما يصنع الكفاءة ويضمن الريادة. أما تجاهل هذه الأدوات فكان سببًا في انهيار مؤسسات كبرى. ولهذا فإن المؤسسات التي تجعل من التقييم والتحسين المستمر أساسًا في عملها لا تكتفي بالحفاظ على مكانتها بل تصنع لنفسها فرصًا متجددة للتفوق. وفي المملكة، لم يعد الاكتفاء بمفهوم الجودة التقليدية كافيًا. نحن أمام مرحلة جديدة عنوانها التميز المؤسسي، وهو نهج يتجاوز الامتثال للمعايير إلى تبني ثقافة الإبداع والتكامل الاستراتيجي. وقد برزت الحاجة إلى إنشاء مركز وطني للتميز المؤسسي يكون المظلة الجامعة لتوحيد المعايير وتحفيز الابتكار وضمان تحرك جميع القطاعات في اتجاه واحد نحو الريادة. هذا المركز لا يُفترض أن يُختزل في الجوائز أو مراقبة الأداء، بل أن يكون محركًا وطنيًا للتدريب والتحفيز، يغرس التميز في الهوية المؤسسية للمجتمع السعودي. ومع ذلك، فإن أي تحول كبير لا يخلو من تحديات. بعضها معروف مثل مقاومة التغيير داخل المؤسسات، ونقص الكفاءات المتخصصة في الحوكمة والتطوير، وتضارب المصالح، وضعف الاستثمار في البحث والابتكار، والاكتفاء بالشعارات بدل ترسيخ ثقافة عملية للتميز. لكن هذه التحديات ليست عصية على الحل، فهي تحتاج إلى قيادة شجاعة تستثمر في الإنسان، وتربط بذكاء بين الحوكمة والتطوير، وتمنح المؤسسات الجرأة على التجريب. وهنا تأتي رؤية المملكة 2030 كإطار جامع، فهي ليست مجرد برنامج اقتصادي، بل مشروع وطني لإعادة صياغة المؤسسات على أسس من الحوكمة الرشيدة والتميز المؤسسي. هذه الرؤية تدعو إلى مراجعة برامج الحوكمة لترسيخ الشفافية، وتفعيل الرقابة، وتشجيع الابتكار، وبناء اقتصاد متنوع يقوده القطاع الخاص. الجامعات السعودية مدعوة إلى تجاوز هاجس التصنيفات إلى الاستثمار في البحث وريادة الأعمال، والشركات الوطنية مطالبة بالسؤال لا عن كيفية الحفاظ على عملائها الحاليين فقط، بل عن كيفية ابتكار أسواق جديدة تدعم تنويع الاقتصاد الوطني. إن مؤسسات الوطن اليوم أمام فرصة تاريخية لتأسيس نموذج عالمي في الحوكمة والتطوير يستند إلى خصوصيتها الوطنية ويستلهم التجارب العالمية. والتحدي الحقيقي ليس في رفع مؤشرات الأداء وحدها، بل في بناء ثقافة مؤسسية ترى في التغيير فرصة لا تهديدًا، وفي مؤشرات الأداء وسيلة لا غاية، وفي الابتكار خيارًا استراتيجيًا لا ترفًا. بهذه الروح يمكن للمؤسسات أن تتحول من كيانات ناجحة إلى منارات تميز تضع المملكة في مصاف الدول الرائدة عالميًا. ولعلّ السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل آن الأوان لإنشاء المركز الوطني السعودي للتميز... ليكون المظلّة التي تجمع هذه الجهود وتُوجّهها نحو الريادة العالمية؟ *قسم الإحصاء وبحوث العمليات – كلية العلوم – جامعة الملك سعود