المعنى هو الهدف الأسمى لوجودنا، بأن يكون لحياتنا قيمة، والمعنى والوجود هما من أعمق المفاهيم التي تناولتها الفلسفة والدين والعلم. أن تكون لحياتنا معنى! بحسب الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، إن الفرد يوجد أولا، ثم يُميز بأفعاله لاحقا ليعرف بها "الجوهر".. وهذا ما يصبغ على وجوده بالمعنى، فوجود بلا معنى هو من العبث، بل إن السؤال عن المعنى هو غاية إثبات الوجود، فالوجود هو أن تكون "الكينونة"، والتي حررها كمفهوم الألماني مارتن هايدقر، بينما المعنى هو لماذا تكون؟! ليس المهم أن توجد بقدر، ما يكون لوجودك هذا معنى! ماذا يعني أن تكون سعودياً؟ هل هو أن تكون موجوداً على تلك الأرض، وتحت تلك السماء، أم هي تلك البطاقة التي تثبت انتماءك لهذا البلد؟ مع إشراقة اليوم الذي أعلن عن مولد العام 95 على توحيد المملكة العربية السعودية على يد جلالة الملك الموحد عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه-، استنطقني سؤال مربك: هل أنا موجودة على هذه الأرض، أم أن هناك معنى استشعره وأتذوقه لوجودي عليها؟ ما الذي يجعلني حين أسمع السلام الملكي السعودي أشعر بمشاعر أخرى دون غيرها؟ ما الذي يتحرك بداخلي عندما اختار (966) من قائمة الاختيارات؟ ما هو الشيء الذي يسكنني عندما أرى العلم الأخضر؟ أو عندما أشاهد صورة الملك أو ولي العهد؟ عندما أمسك الريال بيدي؟ هي مشاعر ولدت معي، لكني لم أستطع التعبير عنها! ماذا يعني أن أكون سعودية؟ دعوني أفند هذا التداعي إلى مسارات نظرية موضوعية حتى لا تغلبني مشاعري، عند النظر لحياة الإنسان نجد أن هناك عوامل عديدة تؤثر في شعوره بالرضا والسعادة والرفاهية منها ما هو اقتصادي أو سياسي أو صحي وغيره. تلك العوامل ترتبط بمفهوم "جودة الحياة"، والذي أتت النظريات الفلسفية المفسرة له بتساؤل عميق هو: ما الذي يجعل حياتنا جيدة؟ أو ما الذي يجعل الحياة ذات قيمة؟ من أبرز تلك النظريات هي نظرية "الازدهار الإنساني"، ولعله للوهلة الأولى يمكن أن تفسر على أنها تشير إلى الرفاهية والنماء أو المتعة وعدم الألم، غير أن هذه النظرية تشير إلى ما هو أبعد من ذلك وهو العيش في حياة مليئة بالمعنى. يكون فيها الإنجاز، والعلاقات الإيجابية، والمشاركة الفعالة هي المحددات الرئيسة لمعنى حياتنا وقيمتها. وكان أول من اجترح مفهوم الحياة ذات المعنى أو الحياة الجيدة هو الفيلسوف اليوناني "أرسطو" الذي ولّد اعتقاد أهمية المعرفة التي تحمل الناس على حسن التصرف والعيش في سعادة، فغاية الناس في الحياة "السعادة" والتي كانت عند "أرسطو" هي الحياة التي تعاش بفضيلة وهدف. وبهذا تتجاوز فكرة الازدهار الإنساني إلى أماكن أكثر عمقًا؛ كالفضائل، والعلاقات الاجتماعية المحلية والعالمية، والصحة الجسدية والنفسية، والمبادرات والمساهمات المجتمعية، تحقيق الذات والهوية، والتي تتشكل أحياناً بتمييزنا عن الآخر، وعليه تكون الآخرية ضرورية لتأكيد الذات، وهذا ما يحدثه التنوع الثقافي وتقبل الآخر والتعايش محلياً ودولياً. ويأتي شعار اليوم الوطني 95 هذا العام "عزنا بطبعنا" مؤكداً على الطابع الأخلاقي والمحقق لكل حيثيات نظرية الازدهار الإنساني "عزنا بفزعتنا"، "عزنا بكرمنا"، "عزنا بتسامحنا"، "عزنا بتعايشنا"، "عزنا بقوتنا وحزمنا". إجمالاً كان للبيئة الإيجابية سواء مع الذات أو الآخر على المستوى المحلي أو الدولي على هذه الأرض الغالية والمحفزة انعكاساً بشعور (السعودي) بالمعنى مما يحمل الفرد على الشعور بالتقدير داخل وطنه وخارجه لأنه من هذا الوطن؛ وهذا بلا شك يقوي أواصر الفرد مع المكان الذي ينتمي إليه فيتحول هذا الانتماء إلى ولاء. شعور (السعودي) بالأمن والأمان والاستقرار، داخل وطنه سواء على المستوى الأمني أو الاجتماعي، وحتى لو كان خارج الوطن، فهناك أطر ومحددات دبلوماسية وترتيبات سعودية تكفل حماية ابن الوطن خارج جغرافية وطنه، وهذا "السند" يكفي أن يقلل من الشعور بالاغتراب الاجتماعي عند (السعودي). حيث تشغل الحاجة إلى الأمن مساحة ليست بالهينة في هرم عالم النفس الأميركي ماسلو للاحتياجات الإنسانية بعد احتياجاته الأساسية للحياة. كما يشكل الاعتراف والتقدير للجهود والإنجازات السعودية سواء على مستوى الفرد أو المجتمع، وعلى النطاق المحلي أو الدولي فارقاً مهماً في زيادة شعور (السعودي) بالمعنى والسعادة ومزيداً من الفخر والولاء. ويعد موضوع تمكين المرأة من المنعطفات المهمة في مشهد الحياة ذات المعنى، فهناك العديد من قصص النجاح بأصوات نسائية ملهمة في كافة المجالات، تمثلنا داخل الوطن وخارجه أيما تمثيل. ولا يفوتني الحديث عن الاستثمار في عنصر الشباب ودعم الدولة لمشوارهم في الحياة من خلال فتح القنوات والمبادرات والجوائز ونحوها، وإتاحة فرص متكافئة أمامهم. وهذا ما يسعى له شعار "عزنا بطبعنا"، فعزنا بتحملنا للمسؤولية، يولد ويتدفق في روح هذا الشباب، وترتبط المسؤولية فلسفياً بالإرادة الحرة، والتي لا تعني التحرر بل مسؤولية الاختيار والقرار وتحمل نتائجه. هذا بعض مما يجعل (السعودي) يشعر بالحياة المليئة بالمعنى. أقف الآن على الضفة المشاعرية، ما الذي يسكنني عندما أرى أو أسمع رمزيات وطني الحبيب؟! ولكني أحيل الإجابة على مثل هذا التساؤل الجوهري إلى إحدى نظريات الضبط الاجتماعي وعلم الجريمة للعالم الأميركي "هيرشي" والتي مؤداها أن الأصل في الناس بطبيعتهم هو الجنوح نحو الانحراف غير أن الروابط الاجتماعية التي تربط الفرد بمجتمعه هي التي تمنعه من السلوك المنحرف، وكان لهذه النظرية أربعة أبعاد، هي: الارتباط، والالتزام أي أن يكون لحياتك هدف (معنى)، والمشاركة والانغماس في الأنشطة الاجتماعية، والاعتقاد. وعن الاعتقاد أتحدث، والذي يفسره "هيرشي" بأنه درجة الثقة والإيمان بالقوانين والقيم الأخلاقية، فكلما كان لدى الفرد الثقة بأن القوانين عادلة، وأنها من قيادة حكيمة، وأن احترامها واجب أخلاقي، قلّ احتمال خرقها. فحين يعيش (السعودي) بشعور أن قيادته حكيمة وصادقة وتعمل لأجله يزداد شعوره بالمحبة والولاء لكل رمزيات وطنه. اليوم الوطني يوم بهيج حافل، ولا بد من استثماره بتعزيز الصورة الذهنية الحقيقية للمجتمع والثقافة السعودية، من خلال تمثيل أخلاقيات "عزنا بطبعنا" على أرض الواقع. واستشعار الماضي في حاضرة الحاضر ورسم المستقبل، والاعتزاز بالرمزيات الوطنية السياسية، والاجتماعية، والفنية والتي كان ولا يزال لها دورها في رسم جماليات المشهد الثقافي السعودي من خلال الفن التشكيلي، والأدب والشعر، والفيلم السينمائي، والمسرح. د. منى علي الحمود