هناك نوع من الإدمان لا يدان علنًا، ولا يلاحق اجتماعيًا، بل يصفق له أحيانًا ويغلف بمسميات براقة، كالشغف أو التعبير عن الذات أو الحرية أو الحب أو التفريغ النفسي، إدمان يبدو نظيفًا من الخارج، لكنه في العمق ينهك الروح ويستنزف الإنسان ببطء شديد، دون أن يترك آثارًا واضحة يسهل اتهامها، الإدمان النظيف هو ذلك التعلق المفرط بسلوكيات نعلم في قرارة أنفسنا أنها مؤذية، ومع ذلك نمارسها بوعي شبه كامل، كالتدوين المستمر عن الجراح المفتوحة لا بقصد الفهم أو التعافي، بل لإعادة إحيائها كل مرة، وكأن الألم صار مصدرًا للهوية، نكتب لا لنشفى، بل لنبقى داخل الجرح، نطعمه كلمات ونسقيه انتباه الآخرين، وينطبق الأمر ذاته علي العلاقات السامة، تلك التي لا تقوم علي احترام أو أمان، بل على شد وجذب وقلق دائم وانتظار مهين، ندمن الأشخاص الذين يشبهون نقصنا، لا اكتمالنا، نبرر أذاهم بذكريات قديمة، أو احتمالات مستقبلية، نقنع أنفسنا أن الألم العاطفي أقل قسوة من الفراغ، فنختار السم لأننا اعتدنا طعمه، خطورة هذا النوع من الإدمان أنه لا يأتي في صورة سقوط مفاجئ، بل في هيئة تآكل بطيء، لا نلاحظ التحول إلا بعد فوات الأوان، حين نصبح غرباء عن أنفسنا، منهكين بلا سبب واضح، فاقدين للدهشة، مثقلين بتكرار القصص ذاتها، والأخطاء ذاتها، والخذلان ذاته، الإدمان النظيف لا يسرق صحتنا الجسدية غالبًا، لكنه يسرق وضوحنا وحدودنا، وقدرتنا على التمييز بين ما نريده حقًا، وما اعتدنا عليه فقط، يجعلنا نطيل البقاء في أماكن لم تعد تناسبنا، ونعيد اجترار سلوكيات نعرف نتائجها مسبقًا، ثم نتظاهر بالدهشة من النهاية، التحرر من هذا الإدمان لا يبدأ بالمنع، بل بالصدق أن نعترف بأن بعض ما نمارسه تحت لافتة الوعي أو الصدق مع الذات ليس إلا طريقة مهذبة لإيذاء النفس، وأن الشفاء الحقيقي لا يكون في تعرية الجرح إلى الأبد، بل في السماح له أن يلتئم، ولو على حساب قصة اعتدنا روايتها، فليس كل ما ندمنه صاخبًا أو فاضحًا، بعض الإدمان يرتدي بدلة أنيقة، ويمشي معنا بثقة بينما يقتلنا ببطء شديد.