أعلنت حكومة رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر (في 26 سبتمبر 2025)، عن خطط لإطلاق نظام هويّة رقميّة إلزاميّة بحلول عام 2029، بهدف ذكي "ترهيبي" عنوانه مواجهة الهجرة غير الشرعيّة وضبط سوق العمل. ويعتمد المشروع المُعلن على التطبيقات الذكيّة والتشفير البيومتري، وسيُفرض كشرط لإثبات الحق في العمل والخدمات الحكوميّة. لكن هذا الإعلان لم يكن مجرّد قرار إداري، بل فصلًا جديدًا في صراع بريطاني طويل امتد لأكثر من قرن حول التوازن بين ضرورات الدولة الأمنيّة وحقوق الفرد الأساسيّة. وقد أثار المشروع معارضة شرسة من أحزاب المعارضة ومنظمات الحقوق المدنيّة، حيث وقّع أكثر من 1.5 مليون مواطن بريطاني عريضة شعبيّة تطالب برفضه، في مشهد يعيد إلى الأذهان جدلًا تاريخيًا لم يهدأ حول بطاقة الهويّة المدنيّة. ولفهم عمق هذا الرفض المعاصر، لا بد من العودة إلى التاريخ البريطاني. فمنذ مطلع القرن العشرين، ظل المجتمع البريطاني ينظر بعين الريبة لأي محاولة لفرض بطاقات هويّة إلزاميّة، معتبرًا إياها خرقًا للحريّة الشخصيّة وتهديدًا للخصوصيّة الفرديّة. وتعود أول تجربة إلى فترة الحرب (الغربيّة) العالميّة الأولى، حين فرضتها الحكومة لتسهيل التجنيد وحماية الأمن العسكري، لكنها أُلغيت مع انتهاء الحرب عام 1919. غير أن اندلاع الحرب (الغربيّة) العالميّة الثانية أعادها للواجهة بموجب قانون التسجيل الوطني لعام 1939، (National Registration Act) تحت ذريعة مكافحة التجسس النازي وتنظيم التموين والتجنيد. ورغم انتهاء الحرب وزوال مبرراتها، بقيت البطاقات سارية، مما أثار استياءً شعبيًا متزايدًا. وفي عام 1950، وقعت حادثة مثّلت نقطة تحول فارقة. حين أوقف الشرطي "هارولد ماكل" المواطن "كلارنس هاري ويلكوك" بتهمة تجاوز السرعة وطالبه بإبراز بطاقة هويته، لكن الأخير ردّ بالرفض القاطع قائلًا: "أنا ليبرالي وأعارض بشدة هذا النوع من الإجراءات". وتحوّلت هذه الحادثة إلى مواجهة قضائيّة شهيرة عُرفت بقضيّة "ويلكوك ضد ماكل" وأصبح ويلكوك رمزًا للمقاومة المدنيّة، وأسس جمعيّة للدفاع عن الحريّة، ومزق بطاقته علنًا قبل وفاته عام 1952. وتحت ضغط الرأي العام المتصاعد، ألغت حكومة ونستون تشرشل النظام نهائيًا في فبراير من العام نفسه. لكن القصة لم تنته، فمع وقوع هجمات 11 سبتمبر 2001، عاد الجدل حول بطاقات الهويّة بقوة في عهد حكومة توني بلير. وطُرح مشروع "بطاقات الاستحقاق" كإجراء أمني لمكافحة الإرهاب وتسهيل الوصول إلى الخدمات العامة، وتم تمريره بصعوبة في البرلمان عام 2006. ومع ذلك، لم يلق المشروع قبولًا شعبيًا واسعًا، ولم تتمكن السلطات من إصدار سوى 15 ألف بطاقة فقط. واضطرت الحكومة البريطانيّة في عام 2010، إلى إلغاء المشروع بالكامل بعد أن استنزف نحو 4.6 مليارات جنيه إسترليني من الخزانة العامة. ورغم فشل مشروعات الهويّة المدنيّة الشخصيّة، توسّعت الدولة البريطانيّة في مراقبة مواطنيها بوسائل تكنولوجيّة أخرى أكثر تطورًا. فبريطانيا تحتضن اليوم واحدة من أكبر شبكات كاميرات المراقبة في العالم، وتستخدم تقنيات التعرف على الوجوه والذكاء الاصطناعي على نطاق واسع. كما منح قانون سلطات التحقيق Investigatory Powers Act لعام 2016 (المعروف إعلامياً ب "ميثاق المتلصصين Snooper's Charter) أجهزة الأمن صلاحيّات شاملة لجمع البيانات الرقميّة ومراقبة الاتصالات، مما أثار انتقادات حقوقيّة واسعة من مخاطر تحوّل بريطانيا إلى "دولة الأخ الأكبر" الرقميّة. إن المعادلة التي تواجهها بريطانيا اليوم هي ذاتها عبر التاريخ: كيفيّة تحقيق التوازن بين متطلبات الأمن الوطني وحماية الحريات الفرديّة. * قال ومضى: الأسرار الوحيدة في عصر المعلومات هي تلك التي لم تحدّث بها نفسك بعد..