ما يريده العرب من إسرائيل أصبح اليوم -ومع هذه الأحداث في المنطقة- في حالة مختلفة، والخيار الوحيد المتاح أمام إسرائيل هو قبول دولة فلسطينية مستقلة في حدود العام 1967م، أو مواجهة استمرار مقاومتها بجانب خيار عزلتها الدولية بعد إدانتها بجرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني.. على مدى ثمانية عقود تقريباً والعالم العربي في مواجهة مباشرة مع سؤال مهم يقول: ماذا تريد إسرائيل استراتيجياً؟ لانها في كل مرة تريد شيئاً ولكن عندما تحقق ما تريد أو جزءا منه تبدأ بتجاوزه، ومن ثم تطرح أشياء أخرى ومطالب جديدة، هذه الفلسفة الإسرائيلية أدت إلى خسائر استراتيجية كبرى، فإسرائيل ترغب في تغيير موازين القوى في المنطقة عبر فرض رؤيتها على المنطقة مستندة في ذلك على عوامل قوة أثّرت في ترجيح ميزان القوى لصالحها في فترات كثيرة من تاريخ المنطقة. إسرائيل استندت إلى عوامل متعددة وظفتها لصالحها؛ فوضعها الاقتصادي متطور ومتقدم بدخل فردي عالٍ واقتصادي يسمح لها بمضاعفة ميزانيتها الأمنية، وهذا منحها التفوق على دول المنطقة فيما يخص الأسلحة التقليدية بجانب اعتمادها الكبير على ما تجلبه لها الدول الغربية من دعم عسكري وتقني متطور يمنحها دائما الفرصة لتحقيق التفوق من خلال كمية ونوع الأسلحة التي تمتلكها، بالإضافة إلى احتكارها المبكر للسلاح النووي في المنطقة. كل هذه المعايير بجانب فلسفتها القائمة على فكرة المقدسات والسردية الدينية لتفسير الأسباب الوجودية لإسرائيل والتي يتم دعمها بعلاقات متينة مع أميركا التي تتعامل مع إسرائيل من خلال تحالف استراتيجي يصعب تغييره من خلال جميع المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية، والهدف من كل ذلك هو الحفاظ على تفوق إسرائيل وتحديداً عسكريا، فالضمانات الأميركية للوجود الإسرائيلي هي فقط من لعبت دورا حيويا في استمرار إسرائيل. على الجانب الآخر يأتي السؤال: ماذا يريد العرب؟ الحقيقة أن السياق التاريخي للمنطقة العربية وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى فوجئ بالمشروع اليهودي المدعوم من القوى العالمية، وتم فرض إسرائيل بالطريقة التي يعرفها الجميع وتم الاعتراف بها في العام 1948م وكانت لحظة الاعتراف هي البداية لكل المشكلات التي شهدتها المنطقة لثمانية عقود لاحقة تم من خلالها دعم إسرائيل بلا قيود، وبرغم كل هذا الدعم المطلق إلا أن إسرائيل مازالت -وسوف تظل- قلقة، فهي تواجه تحديا كبيرا رغم الضعف الذي تعاني منه المنطقة العربية، والحقيقة التي لا ترغب إسرائيل دائما في سماعها هي فشلها في تحويل معادلة القوة التي تمتلكها الى أرباح سياسية واقتصادية. ما يريده العرب هو مواجهة الهيمنة الإسرائيلية، وما تريده إسرائيل هو فرض هيمنتها على المنطقة، ونقطة الالتقاء بين هذين المسارين هما لب المشكلة التي خلقت الحقيقة الثابتة لدى العرب التي تؤكد أن إسرائيل لا يمكن أن يسمح لها بفرض نفوذها على فلسطين من خلال احتلال الأرض وتهجير السكان، فالطموحات الإسرائيلية بالتخلص من القضية الفلسطينية لن تتحقق مهما كان حجم الدعم الذي تتلقاه إسرائيل من القوى الدولية. إسرائيل رغم كل ما تروجه الدول الغربية عن ديمقراطيتها إلا أنها مجرد دولة إثنوقراطية وعنصرية بشكل علني، فالقتل الذي تمارسه بحق الفلسطينيين والتجويع والتدمير والتطهير العرقي كل ذلك السلوك يعكس حقيقة إسرائيل العدائية التي تروج لفكرة أحقيتها بالوجود من خلال سلوكها العدائي، ليس تجاه الفلسطينيين فقط ولكن تجاه المنطقة كلها، لقد أثبتت العقلية الإسرائيلية أنها بسلوكها السياسي تساهم في عزلتها الإقليمية والدولية، وهذا ما أثبتته أحداث غزة، فما خسرته إسرائيل بعد السابع من أكتوبر من الدعم الدولي لها يثبت حقيقة واحدة هي أن العالم بدأ تدريجيا يدرك حقيقة هذه الدولة التي اعتقدت منذ إنشائها أنها قادرة على السيطرة على فلسطين من خلال سلوك القمع والاحتلال والمجازر والنفي والإبادة الجماعية والاغتيالات. التحدي الأكبر الذي تواجهه إسرائيل يتمثل في استمرار وتجدد المقاومة الفلسطينية وصمودها رغم كل ما تملكه إسرائيل من قوة عسكرية واقتصادية ودبلوماسية، ونفس الفكرة تنطبق على الدول العربية، فرغم كل الاختلاف في موازين القوى والحالة الاقتصادية والعسكرية إلا أن إسرائيل عجزت أن تحسم الاحتلال لصالحها بجانب علاقاتها العربية المتعددة، وهذه هي الحقيقة التي سوف تستمر بلا توقف، فإسرائيل نظريا وعمليا لن تستطيع أن تهيمن على المنطقة ولن تندمج في المنطقة ولن تتعايش مع واقع المنطقة لأنها بكل بساطة تعمل ضد كل هذه المسارات. إسرائيل ذلك الاختراع الجيوسياسي الدولي لابد أن تتم مواجهته بمتطلبات المنطقة، ومهما كانت الإنجازات التي تحققها إسرائيل إلا أن الأهداف الإسرائيلية الكبرى لن تتحقق برغم كل الحقائق، فما يريده العرب من إسرائيل أصبح اليوم -ومع هذه الأحداث في المنطقة- في حالة مختلفة، والخيار الوحيد المتاح أمام إسرائيل هو قبول دولة فلسطينية مستقلة في حدود العام 1967م أو مواجهة استمرار مقاومتها بجانب خيار عزلتها الدولية بعد إدانتها بجرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني.