الإلهام يشبه ومضة برق في ليلة مظلمة، يضيء لحظة واحدة ثم يتلاشى إن لم نحتفظ بنوره. يأتي على حين غرة، فكرة عابرة، صورة من الماضي، كلمة تلمع في حديث عابر، فيوقظ شيئاً في القلب. لحظة الإلهام هي الشرارة الأولى التي تحرّك الكاتب وتستفز مخيلته وتدعوه إلى أن يكتب، لكن الشرارة وحدها لا تصنع ناراً، فهي تحتاج إلى وقود الانضباط لتبقى مشتعلة. الكتابة الإبداعية تبدأ من فكرة، لكنها لا تقف عندها، فالفكرة حين تسكب على الورق تتخذ شكلاً جديداً، تبدأ تتنفس وتكبر وتصبح كائناً مستقلاً له صوت وله روح. الكاتب حين يكتب لا ينقل فكرة جامدة، بل ينقل ذاته، لذلك نجد أن النص العميق يكشف القارئ على ملامح الكاتب، على انفعالاته الخفية، على حزنه وفرحه وتأملاته ويكشف كل خفاياه. هنا يأتي دور الانضباط، فهو الجسر الذي يعبر عليه الإلهام إلى أرض النص، فالكاتب الذي يستسلم لمزاجه وينتظر لحظة الإلهام قد يفوته الكثير من الأفكار التي ولدت ثم ماتت قبل أن تُكتب. أما الكاتب الذي يدرب نفسه على الكتابة، الذي يضع لنفسه وقتاً يومياً ولو لسطر واحد، فإنه يلتقط الفكرة حين تحضر ويستدعيها إن غابت. النص العميق لا يُكتب صدفة، بل يُنحت نحتاً، كل جملة هي ثمرة إصرار الكاتب على أن يجعل نصه صادقاً مع قلبه. وكل نص حقيقي هو انعكاس لتأثر الكاتب بما يكتب، لأن الكتابة ليست مجرد كلمات تصطف، بل مشاعر تتحول إلى حروف، وتجارب تتجسد على الورق. ولعل أجمل ما في الكتابة أن القارئ حين يقرأ نصاً كُتب بصدق يشعر أنه يشارك الكاتب لحظة الإلهام نفسها، يعيش معه دهشة البداية، ويكتشف أثر التجربة كما اكتشفها الكاتب أول مرة. وهنا تكمن قوة الأدب: أن يجعل الفكرة الخاصة ملكاً لكل قارئ، وأن يحوّل الإحساس الفردي إلى إحساس جمعي يتردد صداه في النفوس. وخاتمة القول، الكتابة بالنسبة لي ليست هواية ولا عادة، بل حياة أعيشها. الإلهام يطرق باب قلبي، والانضباط يفتح له الطريق، والنص هو البيت الذي يولد فيه هذا اللقاء. أكتب لأبقى، ولأجعل ما شعرتُ به ذات يوم شعوراً يتقاسمه معي كل من يقرأني. الكتابة هي صوتي الممتد، وذاكرتي التي لا تموت، وطريقتي في أن أضع قلبي على الورق، وهي حياة لأنني مؤمن أنني أكتب لأعيش وأعبر وأتنفس.