عندما يبلغ المرء درجاتٍ من العُلا يحتاج إلى شيءٍ من الهدوء والإيمان التامين للحفاظ على المكانة التي وصل إليها؛ لأن ما في الذاكرة قد يتلاشى مع مرور الزمن فلا الحرف هو الحرف ولا الكلمة هي الكلمة، وبالتالي تأتي الجملة بما لا تشتهي المعرفة. فالمعرفة هي سيدة الحكمة وأهم حقل من حقول الفلسفة؛ لهذا لا تتدفق بدرجاتها دون البحث والتحري الدقيق عن مدى كمالات العلم الموضوعي أو التطبيقي المنسجم مع كل فصوله وفرضياته. (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)؛ وليس ما كل يُقال يستحسن بنا أن نلقاه برحابة واسعة، وإنما الشيء يذكر بما يتم قوله بكلامٍ بليغ كي نستخرج منه كلمة لتصنع لنا معرفة مكتملة، وكما أسلفت المعرفة لا تأتي مصادفة ولا الظواهر وحسب، وإنما العقل بملاحظاته الدقيقة على ما يجري من علوم وأبحاث تكون الظواهر الطبيعية والاجتماعية؛ هي جزء من كيانه. فالظواهر: هي كساعي البريد أو منبه الساعة الذي يخبرك عن أهمية اللحظة الزمنية وأنطولوجيتها المعبرة عن قدومها إليك كي تحفر وتغوص في أعماق الجينالوجيا المعرفية لتخرج كلمة صارخة في البرية، أو كما هي عند هيغل (الواقع يحمل في داخله مفاتيح فهمه). وإن كان ولا بد للإنسان أن يعيش في أتم إرادة من المعرفة فأنه لا يستطيع أن يكمل إرادته نحو معيشته الطبيعية فهو لا يستطيع خلق سعادة دائمة، ولكنه بنفس الوقت له القدرة أن يتجنب التعاسة من حياته؛ سوى الخارجة عن إرادته، وهنا نعكس مقولة شوبنهاور؛ بأن الإنسان عنده مخلوقٌ للتعاسة ولا توجد بحياته سعادة والسعادة لديه تعبير عن الألم، ولكن أليس أن يتريث قليلًا! فالبشر غير متساوين في طباعهم وكذلك أماكن وجودهم فقد تختلف درجة السعادة من مدينةٍ ما إلى أخرى، أوليس القرية تختلف في أنماطها عن المدينة. إذًا درجة السعادة قد تكون في القرية أكثر رحابة من في المدينة. إذًا عن ماذا بنى شوبنهاور تأملاته بتعاسة الإنسان؟! ربما مخيلته صنعت تعاسته! فالذي يعيش في قلق واكتئاب سوف يفسر كل المحيط من حوله على النحو الذي يعيشه هو. وهنا نجد هنري فريدريك أميل بمقولته هذه: (إني أنفر من الواقع ولكني لا أستطيع أن أجد المثالي) يهرب من الواقع ويجد نفسه عاجزًا عن إيجاد الكائن المثالي؛ الذي صوره عقله، وكيف يكون هذا التصوير بدون أداة للفن؟! أليست الأداة جزءًا من عالم الوجود؟ أليس الواقع بكل تفاصيله محاكاة للتصوير العقلي وخلق بنية فكرية أولية للمعرفة؟ وعندما تكتمل أدوات المعرفة يكون حتمًا النتاج إما مثاليًا نوعًا ما أو حالة وجدانية لها إثارتها المؤقتة، ثم تميل للنقصان كما في طبائع الناس من حبٍ متأرجح وأخلاقٍ متفاوتة. وهل الأخلاق هي من تصنع المثالية؟ وهل هي منبع الإنسانية المحضة؟ وعلى ماذا تدور الأخلاق وأين تقف في سلم التطور البشري؟ هل نجدها في المدن؟ أم في القرى والأرياف؟ البعض يقول الأخيرة، كلا.. كما قلت إنها متفاوتة بين البشر، ولكن في حياة المدينة وصخبها قد لا تكون رؤيتها واضحة؛ إذ تكون أشبه بكأسٍ من الخزف، وأما في القرية؛ فهي كالبلور الواضح، أي إنك تجدها بسهولة لدى الأفراد، أما أفراد المدينة فهم منشغلون في أعمالهم على الدوام، وبالتالي يجد الباحث إشكالية في بحثه.