حين يُذكر هذا الوطن، فإنه لا يُذكر فقط بجباله وصحاريه ومدنه وثرواته وموقعه، بل يُذكر بإنسانيته المتأصلة، ويذكر بثقافته الكريمة الزاخرة التي لم تتشكل بالشعارات، بل نُقشت في القلوب، وبُرهنت بالأفعال، وازدانت في الأرواح، وتعمقت في الأطباع. تلك الثقافة التي تُرى في تفاصيل الحياة اليومية، وتُستشعر في أرجاء الوطن، في طرقه، وأسواقه وفي التقاء الناس بعضهم ببعض، وفي تعاملاتهم اليومية. خلف كل تلك التفاصيل الدقيقة ما يجعل عزنا بطبعنا أمر ملموس تلحظه العين، ويستشعره الفؤاد، ويستبق إليه الصغير قبل الكبير، ويلامس كل إنسان يختلط بهذا النسيج الفريد. في هذا الوطن، إذا نزل ضيفٌ بدار أحدهم استُقبل كما يُستقبل العزيز. تُمد له الموائد بما فيها من خيرات، ويُؤوى كأحد أهل البيت. حتى إذا حان وقت رحيله، خرج به صاحب الدار إلى الباب تاركًا إياه مشرعًا خلفه، وكأنه يقول: أبوابنا لا توصد في وجه ضيف، وقلوبنا أوسع من جدران بيوتنا. هكذا يكون الكرم طبعًا لا تكلّفًا، وعزًا لا تصنّعًا. ومن انقطع به السبيل، وجد النجدة من عابر طريق أو مسافر لا يعرفه، لكنه يراه أخًا يستحق العون. ومن مرض أو استغاث، وجد وطنًا يرسل طائرةً تُجليه، أو لجئء إلى طبيب حاذق ليجري أعقد العمليات كعملية فصل التوائم السياميين. هنا يتجلّى أن عزنا بطبعنا رحمةٌ تعبر الحدود، وثقافة حياةٍ نزرع بها الأمل حيث يظنه الناس قد انطفأ. وفي مواسم الطهر، ترى شبابًا وشابات يعملون جنبًا إلى جنب مع أجهزة الدولة لخدمة ضيوف الرحمن: يروون ظمأ الحجاج، ويدفعون عربات المسنين، ويفوّجون المرضى بين مكة والمدينة. كل ذلك بروح تطوعية نابعة من عمق الثقافة والهوية، لا من طلب مديح أو جزاء. هناك يظهر بجلاء أن عزنا بطبعنا خدمة وشرف، وتواضع يعلو على كل مظاهر الدنيا. وفي جنبات المسجد النبوي، تمتد سفر الإفطار كأنها أنهار من خير، يتسابق الناس فيها لخدمة الصائمين، يتنافسون في الأجر، ويحوّلون العبادة إلى صورة من صور الثقافة الجماعية التي تجمع الأرواح قبل الأبدان. هذه المشاهد غيض من فيض، ولكنها ليست طارئة، بل هي امتداد لرسالةٍ حملت للعالم منذ أربعة عشر قرنًا معنى الكرم والنجدة والرحمة. كما اشارت لذلك السيدة خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم بذكرها لخصالٍ هي جوهر رسالته قبل بعثته: صدق الحديث، وإغاثة الملهوف، وإكرام الضيف، والإعانة على نوائب الحق. تلك القيم التي تشكلت في الماضي، هي ذاتها التي تشكل اليوم عمق ثقافتنا. ثقافة تقول إن عزنا بطبعنا، لا نستمده من ثروةٍ عابرة أو قوةٍ صلبة فقط، بل من إنسانيتنا المتأصلة، وطباعنا النبيلة التي تتجدد مع كل جيل. إنه وطن إذا أردت أن تقرأ ثقافته، فلا تبحث في الكتب فحسب، بل انظر إلى أفعاله. ستجد أن كل موقف فيه درس، وكل قلب فيه مفعم بالإنسانية، وكل إنسان فيه قصيدة حيّة. وطنٌ يتمنى أبناؤه الخير للغير كما يتمنونه لأنفسهم، ويمنحون العطاء كما لو كانوا هم المستفيدون منه. وبمناسبة اليوم الوطني، نزداد يقينًا أن هذا الإرث الثقافي ليس مجرد ذاكرة نتغنى بها، بل حاضر حي نعيشه، ومستقبل نصنعه معًا. وطنٌ يزهو بأرضه وتاريخه، ويزداد زهوًا بثقافةٍ تجعل من الإنسان قيمة، ومن القيمة حضارة، ومن الطبع عزًا ومنهاجاً لا يزول، فطبعنا بعزنا، وعزنا بطبعنا.