على هذه الأرض التي صنعت من الصحراء مدرسة للصبر، ومن الجبال منبراً للعزة، ومن البحر فضاءً للكرم والعطاء، تتجدد الحكاية التي تعانق الماضي وتضيء الحاضر، حكاية وطن يكتب فصوله بالإنجاز، ويجعل من الفخر رابطاً لا ينقطع بين الإنسان وأرضه، ومن هذا العمق تنبع الذكرى الخامسة والتسعون لليوم الوطني، حيث يتحول الوطن إلى مساحة وجدانية تتلاقى فيها الرموز مع المعاني، ويصبح اليوم مناسبة لإعادة قراءة المسيرة في ضوء ما تحقق وما يُصاغ من طموحات جديدة. إن الشعار الذي يرفرف هذا العام تحت عبارة «عزنا بطبعنا» يعكس ارتباط الإنسان بأرضه، ويضع الطبيعة بوصفها عنصراً أصيلاً في تشكيل الوعي والذاكرة، وكذلك فإن الهوية البصرية المصاحبة حملت رموز الكرم والأصالة والطموح والتضامن، لتجعل من المناسبة نافذة ثقافية تتجاوز الطابع الاحتفالي إلى معنى أعمق في الوجدان. ويعد ما تحقق من إنجازات في السنوات الأخيرة انعكاساً لمسيرة واثقة تسير بخطى ثابتة، فقد تمكنت المملكة من ترسيخ حضورها كقوة اقتصادية مؤثرة تتبنى التنوع وتفتح آفاقاً جديدة في مجالات متعددة، وكذلك فإن الإصلاحات الاجتماعية أسهمت في صياغة مشهد أكثر شمولاً وعدلاً، حيث برزت مشاركة المرأة بوضوح، وأصبح حضورها في ميادين الاقتصاد والثقافة والفنون جزءاً من ملامح المرحلة، وهو ما منح التجربة السعودية طابعاً أكثر حيوية وتجدداً. الثقافة والفنون بالمملكة، برزتا بشكل عكس ملامح الهوية السعودية وقدمها بشكل فريد لكل العالم، حيث خطفت الأوركسترا السعودية كافة الأنظار في قصر فرساي بفرنسا، فاعتلى العازفون السعوديون خشبة الأوبرا الملكية إلى جانب فرق عالمية، مقدمين مزيجاً من الموروث المحلي والنغم الكلاسيكي في حوار فني عبر عن الحضور السعودي في أرقى المحافل الدولية. وأيضا جاء مهرجان الرياض للمسرح ليمنح خشبة المسرح السعودي طاقة متجددة بطموح يعانق الآفاق، مع عروض متنوعة تمزج بين النصوص المحلية والتجارب العربية والعالمية، مؤكداً أن المسرح عاد ليأخذ مكانته كفضاء فكري وجمالي. كما شاركت مسرحية «طوق» والتي تدعمها هيئة المسرح والفنون الأدائية، في مهرجان أفينيون الفرنسي» Off Avignon»، والذي يُعد أعرق المهرجانات المسرحية في أوروبا، ومهرجان فرينج في أسكتلندا، ما يرسخ حضور التجربة السعودية خارج حدودها، حيث أتاحت فرصة للجمهور العالمي لقراءة الفن والتفاعل مع الإبداع السعودي. مع ذلك، كان لموسم الرياض منذ انطلاقته «2019»، فكرة أخرى، حيث ساهم في ترسيخ المسرح العربي في السعودية، إضافة لتعريف الجمهور بالعروض المحلية، وتقديم فكرة الكوميديا الحديثة، والبعد الإنساني في معالجة قضايا اجتماعية مختلفة، لتؤكد أن المسرح لم يعد مجرد فن للنخبة، بل أصبح وسيلة للتأثير والتقارب مع الجمهور. كذلك لم يقتصر المشهد على المسرح والموسيقى، بل شمل السينما أيضاً، إذ أصبح مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي منصة أساسية لدعم صناعة الفيلم المحلي والعربي والعالمي، وجسراً للتواصل بين المبدعين وصناع السينما من مختلف أنحاء العالم، ومع كل دورة كان حضوره بارزًا، من منطلق الأحداث السينمائية في المنطقة، والاحتفاء بالأعمال الجديدة، والمبادرات التي تقدمها هيئة أفلام، ومهرجان البحر الأحمر السينمائي، في دعم الشباب وصناع الأفلام الطموحين. المشاريع العملاقة باتت علامة فارقة في هذه الرحلة، ويعد مشروع نيوم مثالاً على الطموح الذي يتجاوز حدود المألوف ليقدم نموذجاً جديداً للمدن المستقبلية، وكذلك فإن مشروع سودة بيكس في عسير يفتح آفاقاً سياحية نوعية تستثمر في طبيعة المكان لتضعه على الخريطة العالمية، بينما يأتي مشروع سندالة كوجهة بحرية فاخرة تُعيد تعريف السياحة في البحر الأحمر، أيضا هذه المشاريع ليست عمراناً وحسب، بل هي رسائل ثقافية تعبر عن التقاء الهوية الوطنية مع روح العصر، إضافة للبعد البيئي الذي لم يكن غائباً، عندما جاءت مبادرات مثل السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر لتجسد التزام المملكة بالاستدامة، وتعلن عن مشروع وطني واسع لإعادة تأهيل الغطاء النباتي ومكافحة التصحر، إلى جانب التوجه نحو الطاقة المتجددة الذي جعل المملكة شريكاً أساسياً في صياغة مستقبل الطاقة النظيفة، وهو ما يعكس رؤية متكاملة توازن بين التنمية وحماية البيئة. ومن أبرز ما يميز هذه المرحلة، ذلك النمو الثقافي، إذ أصبحت الفنون والمهرجانات الثقافية مساحة لإبراز التنوع السعودي وتقديمه للعالم، وكذلك فإن الاستثمار في التراث المادي والمعنوي منح الهوية الوطنية حضوراً جديداً يتقاطع مع مشروع النهضة الاقتصادية والاجتماعية، ليؤكد أن الثقافة ليست هامشاً بل محوراً أساسياً في بناء المستقبل. «اليوم الوطني 95» يظل مناسبة مهمة لترسيخ قيم الانتماء واستلهام الطريق نحو مزيد من التقدم، والتي تؤكد أن مسيرة الوطن لا تنقطع، وأن فصولها تُكتب بالعمل والإنجاز، لتبقى المملكة راسخة في وجدان أبنائها وعلامة مضيئة في محيط العالم. مشاركة الأوركسترا السعودية أعطت انطباعاً عالمياً للموروث بالمملكة عرض مسرحية طوق السعودية في مهرجان أفينيون بفرنسا مهرجان البحر الأحمر السينمائي أخذ على عاتقه ترويج التراث السعودي من خلال جدة التاريخية