لم تعد الأمية اليوم مرتبطة بعدم القدرة على القراءة والكتابة فحسب، بل امتد معناها إلى بُعد أعمق وأوسع هو محو الأمية الرقمية (Digital Literacy)، ففي زمن أصبحت فيه الأجهزة الذكية امتدادًا لأيدينا، وصارت الخدمات الحكومية والمالية والتعليمية متاحة بضغطة زر، غدت التقنية ضرورة لا خيارًا، خصوصًا مع التحول الرقمي الذي يشهده سوق العمل، حيث دخلت التقنية في جميع المجالات بلا استثناء، وبذلك أصبحت المنظمات تبحث عن كوادر تمتلك مهارات رقمية متقدمة لما لذلك من أثر مباشر في تحسين أدائها. تتضمن الأمية الرقمية عدم امتلاك المهارات والمعرفة اللازمة لاستخدام التقنية بفعالية، بدءًا من التعامل مع الأجهزة والبرامج والتطبيقات، مرورًا بكيفية الوصول إلى المعلومات عبر الإنترنت والقدرة على تقييمها، وصولًا إلى استخدام البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي بوعي ومسؤولية. وقد أدركت المملكة مبكرًا أهمية هذا الجانب، فجاءت رؤية السعودية 2030 لتضع التحول الرقمي في قلب مشاريعها الكبرى، فامتلاك بنية تحتية متطورة لم يعد كافيًا وحده، بل المطلوب أن يكون المواطن قادرًا على التعامل معها بكفاءة، ويمتلك المهارات التي تمكّنه من التفاعل الآمن والواعي مع التقنيات الحديثة؛ من البحث الفعّال عن المعلومات، إلى حماية الخصوصية والتعامل مع البيانات، وصولًا إلى توظيف المنصات الرقمية في التعليم والعمل والتواصل. وفي هذا الإطار، خطت المملكة خطوات بارزة نلمسها في برامج التوعية المجتمعية مثل "العطاء الرقمي"، وفي دمج المهارات الرقمية ضمن المناهج الدراسية، إلى جانب برامج التدريب وورش العمل التي تستهدف موظفي القطاعين العام والخاص والقطاع غير الربحي. كما أطلقت الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) بالتعاون مع وزارتي التعليم والموارد البشرية والتنمية الاجتماعية مبادرة مليون سعودي للذكاء الاصطناعي "سماي"، لتدريب مليون مواطن ومواطنة على مهارات وتقنيات الذكاء الاصطناعي، دعمًا لبناء القدرات الوطنية وتحقيقًا لمستهدفات الرؤية الطموحة. إن تعزيز محو الأمية الرقمية يسهم في ترسيخ الاقتصاد الرقمي عبر دعم التجارة الإلكترونية، وتشجيع ريادة الأعمال التقنية، وتمكين المرأة والشباب من خلال فرص عمل جديدة وتطوير مهاراتهم المستقبلية، كما يسهم في حماية المجتمع من المخاطر الرقمية كالاحتيال الإلكتروني واستغلال البيانات، وتحسين جودة الحياة عبر الخدمات الحكومية الرقمية التي توفر الوقت والجهد على المواطن والمقيم والزائر. إضافة إلى ذلك، فهو يحد من الفجوة الرقمية بين الفئات العمرية والجغرافية والاجتماعية، ويعزز مكانة السعودية عالميًا كدولة رائدة في الاقتصاد الرقمي. إن محو الأمية الرقمية لم يعد خيارًا تنمويًا، بل أصبح ضرورة وطنية تمس الاقتصاد والأمن وجودة الحياة. فمَن يفتقد المهارة الرقمية اليوم سيفتقد غدًا القدرة على التعلم والعمل والتواصل. ومن هنا، فإن الاستثمار في محو الأمية الرقمية هو استثمار في الإنسان، الركيزة الأولى لكل نهضة وتنمية، وخطوة حاسمة نحو بناء مجتمع معرفي متكامل قادر على المنافسة عالميًا.