السينما السعودية تكتب فصلًا جديدًا من حضورها العالمي، وهي تدخل أروقة المهرجانات الكبرى بأفلام تستلهم بيئتها وتستحضر حكايات مجتمعها، لتتحول من تجربة محلية إلى صوت يشارك العالم قصصه على أرقى المنصات السينمائية، ومن بين هذه المحطات اللافتة، حيث يطل فيلم "هجرة" للمخرجة شهد أمين في عرضه العالمي الأول من خلال قسم "سبوت لايت" بمهرجان البندقية السينمائي الدولي، الحدث الذي يُعد واحدة من أعرق المنصات الفنية في العالم وفي المقابل، يشهد مهرجان تورونتو السينمائي الدولي، في نسخته ال"50"، العرض العالمي الأول لفيلم "المجهولة" للمخرجة هيفاء المنصور، ضمن قسم "سنتر بيس" المخصص للأفلام الدولية التي تحمل رؤى فنية وإنسانية مميزة، وبين هذين المهرجانين، ترسم السينما السعودية مسارًا جديدًا يضعها في قلب الخارطة العالمية. كما تكشف هذه المشاركات عن حضور نسائي سعودي مؤثر يقوده اسمان بارزان في الإخراج ف شهد أمين، التي سبق أن قدمت فيلم "سيدة البحر" الحاصل على العديد جوائز دولية، تعود هذه المرة بقصة تمزج بين الدراما العائلية والرحلة الروحية، في "هجرة"، تتابع الكاميرا رحلة جدة صارمة وحفيدتها ذات الثانية عشرة على طرق الحج القديمة، في بحث مضنٍ عن فتاة مفقودة، أيضاً تتصاعد الأحداث وسط مناظر طبيعية قاسية وغرباء غامضين، لتكشف الرحلة تدريجيًا عن شروخ عميقة بين أجيال النساء داخل العائلة، وعن تحولات داخلية موازية لصعوبة الطريق نفسه، وقد صُور الفيلم في ثماني مدن سعودية، من بينها جدة والعلا، ليجسد التنوع الجغرافي والثقافي في المملكة. وأيضًا تأتي تجربة المخرجة هيفاء المنصور، أيقونة الإخراج السعودي وأول مخرجة تصل إلى هوليوود، عبر فيلمها الجديد "المجهولة" الذي يقدم حبكة بوليسية مشحونة بالرموز، التي تبدأ القصة بالعثور على جثة فتاة مجهولة الهوية في الصحراء، كما تنطلق في بحثها الخاص متنقلة بين مدارس البنات في محاولة لكشف الحقيقة، وتدور رحلتها في مسار شخصي يضعها وجهًا لوجه مع قضاياها الخاصة وأسئلتها الداخلية، وهنا تلعب الممثلة السعودية ميلا الزهراني دور البطولة، مضفية على الحكاية بعدًا إنسانيًا يلامس قضايا الهوية والعدالة، ويعرض الفيلم في مهرجان تورونتو، الذي يحتفي هذا العام بمرور خمسين عامًا على انطلاقته، كواحد من أبرز المهرجانات التي تشكل بوابة نحو السوق العالمية وتكشف عن أصوات جديدة في السينما. وكذلك لم يكن هذا الحضور ليحدث بمعزل عن الجهود المؤسسية التي ترعاها المملكة، وعلى رأسها هيئة الأفلام السعودية عبر برنامج "ضوء"، كما ساهم في تمكين أكثر من الأفلام، ومن خلاله وجد صنّاع الأفلام السعوديون المساحة اللازمة لتطوير نصوصهم وتجاربهم، وتحويلها إلى مشاريع مكتملة قادرة على المنافسة في المهرجانات الكبرى، كما أن وصول فيلمين "هجرة" و"المجهولة" إلى منصتي البندقية وتورونتو تحت مظلة "ضوء" يعكس نجاح الرؤية الاستراتيجية التي تهدف إلى بناء صناعة سينمائية سعودية متكاملة. كما يمكن القول إن هذه التجربة تمثل انعكاسًا لتحولات أوسع يشهدها المشهد الثقافي في المملكة، ف بعد أن كانت المحاولات الأولى في السينما فردية ومحدودة، نشهد اليوم نقلة نوعية تقودها مؤسسات رسمية وتواكبها مواهب قادرة على الحضور العالمي، التي لم يعد وصول فيلم سعودي إلى مهرجان دولي حدثًا استثنائيًا، بل بات مؤشرًا متكررًا على صناعة آخذة في الترسخ، تتغذى من تنوع المجتمع السعودي وثراء بيئته، وأيضاً يتقاطع الفيلمان في رمزيتهما، إذ يجتمعان حول فكرة البحث عن المفقود والمجهول، كما في فيلم "هجرة" يصبح ضياع فتاة صغيرة مدخلًا إلى رحلة أعمق في سؤال الانتماء والتاريخ العائلي، بينما في فيلم "المجهولة" يتحول التحقيق في جثة بلا اسم إلى مواجهة مع هوية الفرد وأسئلته الكبرى، كما أن كلا الفيلمين يقدمان رؤية نسائية جريئة تعيد تعريف موقع المرأة في السرد السينمائي السعودي، ليس فقط كمخرجة أو بطلة، بل كقوة محركة ومركزية في الحكاية. وكذلك يبرز هذا الحضور العالمي للسينما السعودية باعتباره جسرًا حضاريًا يروي للعالم قصص المجتمع السعودي بلغة الفن السابع، كما أصبحت الأفلام هنا ليست مجرد وسيلة ترفيهية، بل وسيلة للتواصل الثقافي والإنساني، تعكس صورة المملكة في تحولاتها، وتفتح نوافذ على تفاصيل حياتها وتنوع أصواتها، أيضاً نجاح "هجرة" و"المجهولة" لا يُقرأ فقط كإنجاز فني، بل كجزء من مشروع وطني متكامل لصناعة السينما، مشروع يجعل من الفن قوة ناعمة وسفيرًا ثقافيًا يعبر الحدود ويروي الحكاية السعودية للعالم. المخرجة هيفاء المنصور المخرجة شهد أمين