منذ مطلع سبتمبر 2025م، أثارت بيانات وزارة العدل نقاشًا واسعًا في الأوساط الاقتصادية والقانونية، بعدما أظهرت ارتفاعًا غير مسبوق في معاملات نقل الملكية عبر عقود الهبة بنسبة قاربت 50 % مقارنة بالمتوسط السنوي المعتاد، وتزامنت هذه القفزة مع دخول الأنظمة الضريبية الجديدة حيّز التطبيق، ما جعل المراقبين يتساءلون: هل يعكس هذا الحراك رغبة طبيعية في توثيق الحقوق، أم أنه محاولة لتقليل الأعباء المالية المرتبطة بالضرائب العقارية؟ احتمالات التهرب الضريبي ويرى عدد من الخبراء أن جزءًا من هذا الارتفاع قد يرتبط بمحاولات لتفادي الرسوم المستحقة على الصفقات العقارية، خصوصًا في الأراضي ذات المساحات الكبيرة، وبعض الملاك يعمدون إلى توزيع ملكياتهم بين الأبناء أو الورثة تحت مظلة "الهبة"، للاستفادة من الإعفاءات المقررة للعقود الأسرية، وهذه الممارسات، وإن كانت قانونية في ظاهرها، تثير تساؤلات حول مدى انسجامها مع أهداف التشريعات الجديدة التي تسعى إلى تعزيز العدالة الضريبية وتوسيع قاعدة الامتثال. فحين تتحول الإعفاءات إلى أداة يستغلها كبار الملاك، قد يتأثر التوازن الذي يستند إليه النظام الضريبي. دوافع مشروعة للتوثيق من جهة أخرى، يؤكد مراقبون أن الكثير من هذه المعاملات لا يمكن تصنيفها كتحايل، بل تعكس دوافع عملية ومشروعة. دخول الأنظمة الجديدة شكّل حافزًا لدى الأفراد والشركات للإسراع في تسوية أوضاعهم القانونية، فمنهم من بادر إلى توثيق اتفاقات قديمة بين الشركاء، ومنهم من سعى إلى تصحيح ملكيات لم تكن مسجلة رسميًا من قبل. كما أن الهبات تُستخدم أحيانًا لتثبيت حقوق داخل الأسرة الواحدة أو بين شركاء تجاريين، في سياق اجتماعي واقتصادي ظل يعتمد طويلًا على الثقة والعرف أكثر من الوثائق الرسمية. ومع التحول نحو الرقمنة وربط الملكيات بالأنظمة الضريبية، أصبح التوثيق أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. ثغرات قانونية قائمة ويتمثل أحد أبرز التحديات التي تواجه الجهات التنظيمية في وجود ثغرات قانونية قد يصعب ضبطها. على سبيل المثال، عقود الملكية المشتركة (المشاع) تتيح للمالك الأصلي أن يحتفظ فعليًا بالسيطرة على العقار رغم إضافة أسماء ورثة أو شركاء آخرين إلى السجل. وفي هذه الحالات، قد يبدو العقد ممتثلًا من الناحية الشكلية، لكنه لا يعكس بالضرورة انتقالًا حقيقيًا للملكية. هذا التعقيد يجعل عملية التدقيق في النيات والغايات وراء بعض المعاملات مسألة دقيقة، ويزيد من صعوبة فرض الرسوم بطريقة عادلة وشفافة. مطالب بتعزيز الرقابة أمام هذا المشهد، تتجه النقاشات أكثر نحو تعزيز أدوات الرقابة والإفصاح، بدلًا من التركيز على تعديل الإعفاءات فهناك من يطالب بتطوير أنظمة الربط الإلكتروني بين وزارة العدل والهيئة الضريبية لتتبع حركة العقود بشكل لحظي، إلى جانب تحسين آليات الإفصاح عن الروابط الأسرية أو الشراكات التجارية بين أطراف العقود، واستخدام تقنيات تحليل البيانات للكشف عن الأنماط المتكررة التي قد تشير إلى ممارسات غير منسجمة مع أهداف التشريعات، وبحسب مراقبون فإنّ هذه الإجراءات يمكن أن تمنح الجهات التنظيمية قدرة أكبر على التفريق بين المعاملات المشروعة وتلك التي تستغل الثغرات. سوق في حالة ترقب ويعكس المشهد العقاري اليوم دينامية استثنائية؛ فالأفراد والشركات يسارعون إلى إعادة ترتيب ملكياتهم، فيما تراقب الجهات التنظيمية التطورات عن قرب لتقييم أثر القوانين الجديدة، المستثمرون من جهتهم يتابعون المؤشرات بعناية، لقياس مدى استقرار السوق في ظل هذا الحراك غير المسبوق. وهذه المرحلة الانتقالية قد تحمل في طياتها تحديات قصيرة المدى، لكنها تتيح أيضًا فرصة لإعادة بناء نظام أكثر شفافية وكفاءة، وفي نهاية المطاف، سيُقاس نجاح التجربة بمدى قدرة النظام على سد الثغرات وتحقيق التوازن بين تحصيل الإيرادات الضريبية وتشجيع الأفراد على توثيق حقوقهم، بما يخدم أهداف التنمية الاقتصادية على المدى البعيد.