تشهد السوق السعودية في المرحلة الراهنة إعادة هيكلة نوعية في مسارات الاستثمار المحلي، بعد أن دفعت الإجراءات الحكومية الأخيرة السوق العقارية نحو مرحلة تصحيح تهدف إلى كبح المضاربات وتحقيق التوازن بين العرض والطلب، فقد عاش العقار سنوات طويلة تحت تأثير ما يمكن وصفه بالندرة المصطنعة، حيث عمد بعض المستثمرين إلى احتكار الأراضي وإبطاء ضخ المعروض لخلق انطباع بأن الأرض سلعة نادرة، ما أدى إلى تضخم غير مبرر في الأسعار انعكس على الاقتصاد والمجتمع، هذا الواقع لم يغب عن القيادة، إذ ترى أن العقار يجب أن يكون وسيلة للتنمية لا لتكديس الثروات على حساب الأجيال، وأن معالجة التشوهات العقارية تمثل ركناً أساسياً في رؤية المملكة 2030، حتى وإن كانت تكلفة الإصلاح قاسية في بداياتها قبل أن تُؤتي ثمارها على المدى الطويل، ولذلك صدرت توجيهات سمو ولي العهد إلى القطاع العقاري كخارطة طريق جديدة لتنظيم السوق واستقراره، فالأرقام الأخيرة تعكس بوضوح نجاح السياسات في إعادة ضبط السوق، إذ انخفض مؤشر الأراضي السكنية من أعلى قمته في الربع الأول الذي سجل 105.6 إلى 101.3 في الربع الثاني ولازالت الأسعار تواجه انخفاضات حادة لوحظت في الشهرين الماضيين، هذه البيانات تشير بوضوح إلى نجاح السياسات العقارية مثل توسيع نطاق الرسوم على الأراضي البيضاء وتسريع الشراكات مع المطورين في تقليص فجوة الأسعار، وتحويل السوق من بيئة مضاربة إلى سوق أكثر واقعية. أما على المستوى الاجتماعي، فقد كان لهذا التضخم المفتعل أثر بالغ على المواطن، إذ تحول حلم التملك إلى عبء يثقل كاهل الأسر ويؤخر قرارات الاستقرار الأسري. فالشباب المقبلون على بناء حياتهم وجدوا أنفسهم بين خيارين أحلاهما مر: قروض طويلة الأجل تستنزف الدخل أو البقاء بعيدين عن حلم السكن، ومع بدء مرحلة التصحيح، بدأت الأسعار تتحرك نحو مستويات أكثر واقعية، بما يفتح الباب تدريجياً أمام عدالة أكبر في فرص التملك ويقلل من فجوة الطبقات التي صنعتها المضاربات العقارية، غير أن هذه التحولات لا تعني نهاية التحديات، إذ أن معالجة تراكمات التضخم العقاري تمثل مساراً شاقاً يحتاج إلى وقت وصبر وتوازن بين مصلحة المواطن ومصلحة الاقتصاد. من منظور اقتصادي، فإن هذا التراجع لا يعني تراجعاً في النشاط الاستثماري الكلي، بقدر ما يعكس إعادة توجيه السيولة نحو قنوات أكثر إنتاجية، من زاوية تحليل الجدوى، يمكن النظر إلى السوق العقارية الآن باعتبارها أقل جاذبية من حيث العائد قصير الأجل، فالمستثمر الذي كان يحقق عوائد تفوق 20٪ عبر إعادة بيع الأراضي خلال سنوات الارتفاع، يواجه اليوم مخاطر انخفاض القيمة وعدم اليقين بشأن اتجاهات الأسعار، وعلى المدى المتوسط، يظل الاستثمار العقاري خياراً آمناً نسبياً إذا ما تم عبر التطوير السكني والإيجار طويل الأجل، لكنه يتطلب رأسمال كبير ودورة زمنية أطول لتحقيق العائد، وبالتالي لم يعد العقار قناة مناسبة للاستثمارات السريعة أو لرؤوس الأموال الباحثة عن سيولة عالية. على الطرف المقابل، توفر السوق المالية السعودية اليوم فرصة أكثر وضوحاً، فمكرّر الربحية لمؤشر تاسي بلغ نحو 15.2 مرة في أغسطس 2025، وهو مستوى متوافق مع المتوسط التاريخي وأقل بكثير من أسواق ناشئة كالهند 24 مرة أو متقدمة كالولايات المتحدة 26 مرة هذه المقارنة تضع السوق السعودي في موقع جذاب، خصوصاً أن الاقتصاد المحلي مرشح لتحقيق نمو قوي مدعوم بمشاريع رؤية 2030 ومن منظور الجدوى، فإن المستثمر في الأسهم السعودية يمكن أن يتوقع عوائد بين 8-12٪ سنوياً على المدى المتوسط، سواء عبر مكاسب رأسمالية أو توزيعات نقدية، مع الأخذ في الاعتبار أن المخاطر تظل أعلى من الودائع أو الصكوك لكنها أقل من المضاربة العقارية، أما الودائع البنكية، فهي تقدم حالياً معدل فائدة يقارب 5.1٪، وهو مستوى منافس قياساً بالسنوات الماضية، ويُعد خياراً جذاباً لرؤوس الأموال الباحثة عن الأمان والسيولة المرتفعة، غير أن هذه العوائد، من منظور الجدوى، بالكاد تتفوق على معدلات التضخم المتوقعة (2-3٪)، وبالتالي فهي تحافظ على القيمة الاسمية للمال أكثر مما تحقق نمواً حقيقياً، لذلك، تُعتبر الودائع خياراً مناسباً على المدى القصير أو للمستثمرين المحافظين، لكنها لا تكفي لتحقيق تنمية لرأس المال في أفق متوسط أو طويل، فيما يخص الصكوك، فقد شهدت السوق السعودية إصدارات دورية عززت من عمق السوق الدين المحلي، هذه الإصدارات، إلى جانب الصكوك الخضراء التي تطرحها بعض الشركات الكبرى مثل الشركة السعودية للكهرباء، تتيح عوائد ثابتة تتراوح عادة بين 4.5-6٪ من منظور الجدوى، تشكل الصكوك خياراً متوسط المخاطر، يجمع بين الأمان النسبي مقارنة بالأسهم، وعائد يفوق ما تقدمه الودائع، ما يجعلها مناسبة لرؤوس الأموال الباحثة عن استقرار طويل الأجل وتنويع محفظتها الاستثمارية، إذن كيف يمكن قراءة التحولات الحالية بعين "دراسة الجدوى"؟ إذا افترضنا أن مستثمراً محلياً يمتلك سيولة بقيمة 10 ملايين ريال، فإن توجيهها بالكامل إلى العقار في هذه المرحلة يعرضه لمخاطر انخفاض إضافي في الأسعار وضعف السيولة، أما إذا تم توزيعها بواقع 50٪ في السوق المالية و30٪ في الصكوك و20٪ في الودائع البنكية، فإن العائد المتوقع على المحفظة يتراوح بين 7-9٪ سنوياً، مع مستوى مقبول من التنويع وتقليص المخاطر، هذا النموذج يعكس التوجه الذي تسعى الدولة إلى ترسيخه، سوق أسهم قوية تمثل القناة الرئيسة للاستثمار، مع وجود قنوات داعمة مثل الصكوك والودائع لتأمين الاستقرار والتوازن. من منظور الاقتصاد الكلي، فإن هذا التحول يخدم هدفين استراتيجيين: الأول، تعزيز العدالة الاجتماعية عبر إعادة الأسعار العقارية إلى مستويات واقعية تمكن الأسر السعودية من التملك، وهو ما تحقق جزئياً مع بلوغ نسبة الملكية السكنية 65.4٪ في 2025 متجاوزة المستهدف، والثاني، توجيه السيولة إلى قطاعات إنتاجية عبر السوق المالية، بما يدعم تمويل الشركات الوطنية والمشاريع الضخمة لرؤية 2030، وبهذا يصبح ضبط العقار ليس مجرد سياسة قطاعية، بل جزءاً من خطة أشمل لإعادة توزيع رأس المال بما يحقق النمو المستدام. الخلاصة أن الإجراءات الحكومية الأخيرة أطلقت دورة جديدة للاستثمار المحلي، تقوم على إعادة توازن بين العقار والأسهم والصكوك والودائع، العقار يعود تدريجياً إلى دوره الطبيعي كقطاع سكني وتنموي، بينما تتصدر السوق المالية موقعها كوجهة رئيسة لرؤوس الأموال الباحثة عن النمو، أما الصكوك والودائع، فتلعبان دور "صمام الأمان" في أي محفظة استثمارية، ومن منظور جدوى اقتصادية شاملة، فإن هذا التوزيع المتوازن يمثل خطوة ضرورية لضمان استدامة التنمية وتعظيم العوائد على المدى الطويل.