في كل مؤسسة، هناك وجوه تقف خلف القرارات الكبرى، بعضهم يلمع اسمه لأنه يملك خبرة حقيقية تضيف قيمة، وبعضهم يكتفي بالجلوس في الصف الأمامي دون أثر يُذكر. ومع تسارع التغيرات وتزايد تعقيد بيئات العمل، لم تعد الاستعانة بالمستشارين خيارًا رفاهيًا، بل ضرورة تفرضها طبيعة المنافسة والتطور. المستشار الفعّال اليوم هو شريك في صياغة الرؤية وحل المشكلات، يسد فجوات المعرفة ويفتح أمام المؤسسة آفاقًا جديدة، بينما المستشار العبء يستهلك الوقت والموارد بلا مردود حقيقي. منذ منتصف القرن العشرين، ارتبطت الاستشارات بمرحلة التوسع في الأسواق وظهور الحاجة إلى حلول متخصصة، فبرزت شركات عالمية وضعت معايير عالية لجودة الخدمة، وربطت قيمة المستشار بقدرته على إحداث فرق ملموس. غير أن المشهد في بعض البيئات تغير مع مرور الوقت، إذ أصبح الحصول على لقب "مستشار" في بعض الأحيان نتاج علاقات شخصية أكثر منه ثمرة كفاءة أو خبرة حقيقية. هذا التحول خلق فجوة بين المستشار الذي يملك القدرة على صناعة فارق حقيقي، وآخر يكتفي بالحضور الشكلي، بينما المؤسسات تدفع الفاتورة نفسها للطرفين. خطورة "المستشار العبء" لا تكمن في ضعف أدائه فحسب، بل في الأثر غير المباشر الذي يتركه على بيئة العمل. وجوده قد يخلق حالة من الركود الفكري، ويؤخر اتخاذ القرارات، ويضعف الحافز لدى الفرق التي ترى الجهد يذهب في اتجاهات لا تعود بالنفع. وأحيانًا، قد تجد مستشارًا إعلاميًا لا يملك سجلًا لمقال صحفي واحد، أو متحدثًا باسم جهة بلا أي حضور إعلامي يُذكر، ومع ذلك ينجح هذا النوع في الحفاظ على موقعه عبر المهارة في كسب رضا المسؤول، لا عبر القيمة الحقيقية التي يقدمها. وفي المقابل، هناك المستشار الورقة الرابحة؛ ذلك الذي يضيف منظورًا مختلفًا، ويقدم تحليلًا عميقًا، ويعرف كيف يوازن بين الطموح والواقعية. هو الذي يدرك أن دوره يتجاوز تقديم النصيحة، إلى المشاركة في صناعة القرار وقيادة التغيير. هذا النوع يجعل المؤسسة تشعر أن كل ريال يُنفق على استشارته يعود أضعافًا في صورة إنجازات وقرارات صائبة. الفارق بين النموذجين يضع المؤسسات أمام اختبار حقيقي: كيف نضمن أن يكون المستشار إضافة حقيقية لا عبئًا إضافيًا؟ الإجابة تبدأ من آلية الاختيار. التقييم المسبق للكفاءة، والتحقق من السجل العملي، ووضوح معايير النجاح منذ بداية التعاقد، كلها عناصر لا يمكن التنازل عنها. المهم ألا تكون عملية التعاقد محكومة بالانطباعات الشخصية أو المجاملة، بل بقدرة المستشار على إحداث أثر ملموس وقابل للقياس. أخيرا، "شيء واحد يجب أن يخبر به المستشار قادته؛ كونوا جريئين" هكذا يقول فيك مالهوترا، شريك أول في شركة ماكينزي. نعم إن الاستشارات مكوّن أساسي في منظومة العمل الحديثة، والنجاح لا يتحقق بإلغاء هذا الدور، بل بترشيده وضمان أن يشغله من يستحق. حين تدرك المؤسسات هذه المعادلة، وتتحلى بالشجاعة لتطبيقها، تتحول الاستشارة من بند في الميزانية إلى استثمار حقيقي في المستقبل، ومن عبء إلى ورقة رابحة تدفعها بثقة نحو القمة.