تستهلّ أمل الفاران روايتها "حجرة" الصادرة عن "دار أثر" بجُمَل عميقة تحضّ على التفكُّر فلسفياً ووجودياً وسايكولوجياً وعلمياً، وتتّكئ منذ الكلمات الأولى على حائط اللامتوقَّع أدبيّاً، وتفتتح فضاءها الروائيّ بغير المألوف أو الشائع، ما يشفّ عن رغبتها وجنوحها نحو هندسة بنيانها الروائيّ على أسس مغايرة غير آبهة -منذ الصفحات الأولى- بالذائقة الشعبية والجمعية والنخبوية والنقدية، ما يُحسب لها على صعيد الجرأة. "مقولتان" في التمهيد والإرهاص تحثّانك على التأمّل هنيهةً بشيءٍ من المهابة المحفوفة بالحكمة: "الجنون كالموت تذكرة ذهاب فقط، كل ما يقال عما وراءهما افتراءات أو تخرّصات متبجحة"، و"سأقامر فأقول إننا نصاب بأحدهما (الموت أو الجنون) حين نتذكّر المستقبل". رواية الفاران تستلزم وجود قارئ يتحلّى بالجسارة والصبر، لا يستسهل إطلاق الأحكام العشوائية أو القاطعة النهائية، ولا ينثني عن القراءة حتى الختام. طيف الغرابة تستحضره الروائية بتعمُّد لتجرف المتلقّي من مداخل وكوّات مختلفة، ولتمسّ غير المطروق بغزارة. نتاجها الروائيّ هذا طليعيٌّ ينزل على القارئ كالصاعقة! تفاصيل السرد والوصف حين تقف مريم أمام جثة عارية تماماً لا تخلو من محاولة مقصودة لمحاولة كسر بعض التابوهات روائياً فنياً، حيث تركّز مريم على جسد أمّها. تُغرق الفاران منذ البداية القارئ بجزئيات متفرّقة تشكّل فسيفساء، ولُقطات، ومشاعر مستغربة، ووساوس، وما يحيط بالحادث، وتجرّ المتلقّي على أرض الرواية وخلفها. ثمّة تشويقٌ متخفٍّ في مطلع الحلكة عبر الخيط الخفيّ للأحداث والإسهاب الوصفيّ المقسَّم جملاً تفصل بينها نقطتان. إنه نفَس أمل الفاران المؤسلَب. في الرواية ثمّة حصص ودوائر من "الكولّاج" النصيّ التي تأسرك ببساطتها لأنها لا تتعمّد الإبهار صناعةً أو التركيب في عقَد ادّعاءاته ومتاهاته وترّهاته. بدءاً من "بعد ثلاثة أيام: البئر يجذبها، تشعر به وهو يشدّها نحوه"، يتدفّق السياق الروائيّ بطريقةٍ أكثر سلاسةً ومرونة في التشكُّل والتعاقب، ليخيّم فَيْءُ الإرخاء -فيتنفّس القارئ ولو قليلاً- بعد الشدّ ضمن عصبٍ دراميّ متوتّر، في لعبةٍ فنية مدروسة. إنه التواتر الزاخر بمروحةٍ من التضادّات والتباينات و"الشِّيَة" أي ما يُعرف فنياً -على سبيل المقاربة- دِياسيميائياً بال"Nuances" (لا ترجمة حرفية للمصطلح بالعربية). "مريم" أمل الفاران، في مخيّلتها المتّقدة اللمّاحة المحلّقة، شخصيةٌ ممسوسة بشحنات عاطفية، وبمفارقات القدر، تجعلك تتأوّه على أساها وجراحها كلّما التمست البُرء. هناك بعض المطبّات الطفيفة، الأسلوبية والتقنية واللغوية، التي انزلقت نحوها الفاران سهواً في بعض الأحيان، وهي شائعة جداً وطبيعية وذات طابع روتينيّ اعتياديّ عموماً. غير أنّ ذلك لا يحجب البتّة جمال تجربة أمل الروائية وجسارتها وموهبتها الكبيرة، وقدراتها على خوض غمار ما هو أبعد وأوسع وأعمق وأكبر من ذلك من حيث الجوهر، لا الكمّية. "حجرة" عملٌ روائي يبوح بالكثير ويشي ويعد بالأكثر. على نول الشغف الأدبيّ والضياء فتلت المؤلّفة خيوط روايتها بمغزلها. حملت شخصيّاتها على ظهرها، لا على الصفحات فحسب، وحملتنا أيضاً على أجنحة الوجع والصدق الإنسانيين وشفافية الإفضاء بلا مساحيق تجميل وأقنعة وقفّازاتٍ وبهرجة أدبية. * كاتبة وشاعرة