النعومة الأميركية مع روسيا ليس خلفها أسباب شخصية بين شخوص العملية السياسية في البلدين، النعومة الأميركية مدفوعة بالقلق على النظام العالمي وتصوراته المستقبلية، فأميركا في الحرب الروسية - الأوكرانية تفكر بطريقة تتجاوز الطريقة الأوروبية بكثير، فروسيا الاتحادية أصبحت قادرة على إغلاق النوافذ على الغرب لتقوم بفتحها على الشرق.. لا يخفي الرئيس بوتين حبه الشديد للتاريخ الروسي فهو يرى نفسه في الإمبراطور بيتر الأول (1682-1725) الذي يعتبر أحد أعظم من حكم الإمبراطورية الروسية على مدى التاريخ، وقد كانت سياساته سببا رئيسا في تحول روسيا القيصرية إلى الإمبراطورية الروسية التي باتت إحدى أهم القوى على مستوى أوروبا، كما أن ستالين يحضر بشدة وبطرق خفية في الفضاء السياسي الروسي، فالكرملين قدم الفترة الستالينية باعتبارها حقبة من العظمة، حيث تم احترام التقاليد الإمبراطورية والاعتزاز بالقيم الوطنية. الفارق الوحيد في التاريخ الروسي أن روسيا لم تكن يوما من الأيام مصدراً حضاريا، فحتى بيتر الأول عندما أراد تحديث روسيا الإمبراطورية استعان بالحضارة الأوروبية من حوله، وهذا هو السبب الرئيس لتأخر روسيا دائما خطوة إلى الوراء خلف أوروبا، وتقول المصادر التاريخية "إنه في أوائل القرن الثامن عشر استعار بيتر الأول الابتكارات الغربية بما في ذلك التقدم في بناء السفن وغيرها من التقنيات، والأفكار الغربية حول الإدارة الحكومية وحتى أنماط اللباس"، فحتى ستالين قام في ثلاثينيات القرن العشرين بالدفع نحو تعزيز التصنيع على النمط الغربي واللحاق بالتنمية الحديثة. السياق التاريخي في روسيا يفترض أن ينفتح بوتين على الغرب باعتبار أن أوروبا هي المثل الذي طالما استفادت منه روسيا عبر تاريخها، ولكن ذلك أصبح معقداً مع بوتين بعد أقل من أربع سنوات منذ توليه رئاسة الدولة في عام 2003م، فهل كانت لدى بوتين أفكار جديدة، لقد كتب معلم بوتين وفليسوفه المفضل (الكسندر دوغين) في كتابه (الحرب على روسيا الأوراسية) "أن روسيا الاتحادية تريد أن تتحول نحو بناء عالم متعدد الأقطاب في إطار بناء قوتها الذاتية وإعادة بناء محيطها الإقليمي والتحول إلى دولة ذات نفوذ على الساحة السياسية الدولية دون أن تدخل في مواجهة مباشرة مع الولاياتالمتحدة الأميركية". ويصف (الكسندر دوغين) أن روسيا مرت بثلاث مراحل في زمن الرئيس بوتين؛ الأولى: مرحلة إعادة البناء أو ما يسمى "عقيدة استعادة الدولة"، والثانية: مرحلة بناء القوة العسكرية العابرة للقارات "عقيدة فرض الاحترام"، أما المرحلة الثالثة: فهي مرحلة تأكيد المكانة العالمية لروسيا الاتحادية "عقيدة فرض التوازن الاستراتيجي". والملاحظ أن روسيا في هذه المرحلة لا تقدم شيئا مختلفا للعالم إنما تبحث عن شيء مفقود بالنسبة لتاريخها كي تقدمه لنفسها وليس للعالم، والحقيقة بحسب السياق التاريخي أن روسيا لا يمكن أن تنفصل عن أوروبا وأميركا بالشكل الذي يعتقده الكثير، روسيا الاتحادية تبحث عن روسيا الإمبراطورية والاتحاد السوفيتي في طرقات التاريخ، وهنا يأتي السؤال: هل يمكن للرئيس بوتين أن يعدل على خارطة العالم والنظام الدولي من أجل أن يضع روسيا في سياق جديد في النظام الدولي. الانكماش الذي حدث لروسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي أخذ منها الجغرافيا وأبقى لديها القوة العسكرية، ولكن بدون قوة اقتصادية، خاصة أن أوروبا وأميركا ملأتا الفراغ الاستراتيجي في معظم دول الاتحاد السوفيتي التي استقلت لوحدها، وهنا يأتي السؤال الثاني: ما الشيء الذي يسعى الرئيس بوتين لتقديمه للعالم على خلاف ما عمله (بيتر الأول وستالين)؟ فكرة بوتين لإعادة إحياء الفكرة الإمبراطورية الروسية يمكن قراءتها ببساطة من خلال ضم شبه جزيرة القرم عام 2014م وما تبعها بعد ثماني سنوات من الحرب مع أوكرانيا التي تطرح فكرة واحدة تتمثل في أن الفضاء الاستراتيجي لروسيا الاتحادية يشعر بالاختناق من وجود الناتو على أطرافه. هذه الحرب الروسية الأوكرانية حتى وإن استطاعت جهود السلام إيقافها، فهل تستطيع جهود السلام أن تتعامل مع العزلة التي سوف تذهب بروسيا الاتحادية لوحدها بعيدا عن الغرب؟ الفرضية المطروحة هنا صعبة، وقد تتطلب فلسفة سياسية عابرة للحدود، خيارات أوروبا وأميركا أصبحت محدودة أمام قدرة روسيا على التوجه نحو الصين، وهناك سيكون من السهل الحديث عن قدرات الرئيس بوتين ولعبه دورا حاسما في تحديد الشكل المستقبلي للخارطة الدولية والنظام السياسي. النعومة الأميركية مع روسيا ليس خلفها أسباب شخصية بين شخوص العملية السياسية في البلدين، النعومة الأميركية مدفوعة بالقلق على النظام العالمي وتصوراته المستقبلية، فأميركا في الحرب الروسية - الأوكرانية تفكر بطريقة تتجاوز الطريقة الأوروبية بكثير، فروسيا الاتحادية أصبحت قادرة على أن تغلق النوافذ على الغرب لتقوم بفتحها على الشرق، ولنتذكر أن بوتين يسعى لتحقيق "عقيدة فرض التوازن الاستراتيجي"، وهذا لن يتحقق إلا بمنحه ما يريد أو منحه الفرصة ليعدل على خارطة العالم من جديد كما يطمح.