وقت عملي الدبلوماسي في اليابان منذ سنوات طويلة، حكى أحد السفراء العرب حينها عن إحدى الجماعات التي كانت على خلاف مع قيادة ذلك البلد العربي، وقتها تواصل معهم ممثلون عن الإدارة الأميركية تحثهم على التمرد ضد حكومة بلدهم العربي، أجاب ممثل الجماعة: "وماذا سنفعل إذا انتقمت منا السلطة وقامت بقصفنا والاعتداء على ديارنا وأهلنا نتيجة هذا التمرد الذي تدعوننا إليه؟"، فرد عليه ممثل الحكومة الأميركية: "لا تقلق أبداً! أميركا لن تسكت أبداً على أي اعتداء تجاهكم"، تشجعت تلك الجماعة وقامت بالتمرد وإثارة الفوضى، وكما هو متوقع جاء الرد من الحكومة قوياً وقاسياً وعنيفاً، استنجد المتمردون بممثلي الحكومة الأميركية في انتظار أن تغيثهم كما وعدوهم، وبالفعل، أصدرت الحكومة الأميركية بياناً تستنكر فيه الاعتداءات على تلك الجماعة حسب ما وصفه البيان، واكتفت بذلك، غضب المتمردون واستنكروا أنه تم خداعهم، فرد ممثل الحكومة الأميركية: "نحن لم نخدعكم، قلنا لكم إننا لن نسكت، وهذا ما حصل حيث أصدرنا البيان، لم نعدكم بأي شيء آخر، وليست مشكلتنا أنكم فهمتم كلامنا بشكل مغاير". بطبيعة الحال، تظل العهدة على الراوي في دقة هذه القصة، ولكن ما يهمنا هنا هو كيف يمكن للدبلوماسية أن تخلق الكثير من سوء الفهم عبر سياسة الغموض المتعمد، وفي الوقت الذي تكون فيه اللغة الدبلوماسية لها حضورها وأثرها في العلاقات الدولية بين الدول، فهل يمكن أن تنجح الدبلوماسية في عالم الإدارة؟ بعد إنهاء عملي الدبلوماسي وانخراطي في عالم القطاع الخاص استدعاني مرة الرئيس التتفيذي ونصحني قائلاً: "لكي تنجح في هذا العالم لا يمكن أن تطبق الدبلوماسية، إذا أردت أن ترفض شيئاً فارفضه بشكل واضح ولا تجامل أبداً"، ربما كان الانطباع وقتها أن الدبلوماسية لا يمكن أن تنجح في عالم الإدارة والأعمال، ولكن مع مرور السنوات تشكلت لدي قناعة مختلفة.. من نافلة القول إن التعامل الدبلوماسي المهذب والراقي من المدير يظل محل تقدير وله نتائجه الإيجابية مقارنة بمسؤولين لا يتعاملون مع فرقهم إلا بكلمات بذيئة وخلق سيئ. من ناحية أخرى، الدبلوماسية ليست الغموض وإيصال الرسائل الصعبة بطريقة لبقة ومهذبة، الدبلوماسية هي فن صناعة الشراكات الناجحة والمثمرة عبر صداقات وعلاقات إنسانية، وكلما كانت أعمال ومشاريع الشركة أو المنظمة تنشط في الأسواق الدولية كلما كانت الحاجة أكبر لهذه المهارات الدبلوماسية خاصة في بلدان تعطي اهتماماً كبيراً للثقة والمصداقية مثل دول شرق آسيا على سبيل المثال. وفي تجربتي الشخصية مع أكثر من شركة في اليابان، فقد كانت تلك الشركات تعتذر عن عروض تجارية بقيمة مالية أكبر بكثير من شركات منافسة وتفضل مواصلة العمل مع الشركة التي تعاملت معها لسنوات ووثقت في إدارتها وفريق عملها. ومن المهم الإشارة إلى أن الدبلوماسية في الإدارة لا تعني أيضاً التساهل واللين والعلاقات الهادئة دوماً، بل تعني أحياناً الصدام والتفاوض وطرح الآراء بقوة ولكن في إطار من الاحترام والتقدير المتبادل سواء مع الشركاء الخارجيين أو الجهات المختلفة ومنسوبي الشركة والمنظمة نفسها. وباختصار، الدبلوماسية في الإدارة أداة قوية إذا تم تطويعها بالشكل السليم، حيث هي فن اختيار الأدوات والطريقة المناسبة حسب ما تقتضيه المصلحة في كل موقف بين الحزم واللين والصراحة والتغافل، والأهم من ذلك هي القدرة على بناء شراكات ناجحة تقوم على الصداقة والتقدير والاحترام المتبادل.