في زمنٍ لم تكن فيه معاهد أو كراسات، تولّت الذاكرة الشفهية دور المعلم الأول، وسارت الحكاية جنباً إلى جنب مع المطرقة والخيط والنول، لم تكن الحرف اليدوية مجرّد مهارات تتناقلها الأيدي، بل كانت حكايات تُروى، وتجارب تُستعاد، وموروثاً يتشكّل من دفء المجالس، وجلسات المساء تحت ضوء القمر، أو على وهج نار الشتاء. في عام الحِرف اليدوية 2025، تجدّد الاهتمام بما تختزنه الذاكرة الشعبية من سردٍ غير مكتوب، يشكّل جزءاً أصيلاً من عملية نقل الحِرف عبر الأجيال، فتأثير القصص في ترسيخ المهارة لم يكن أقل من الممارسة ذاتها، بل ربما كان بوابة التعلّم الأولى، فحين يستمع الصغار لتفاصيل صناعة السدو، أو كيف يتم اختيار الخشب المناسب لصناعة المباخر، أو قصة أول سكين طُعّمت بالنحاس في القرية، وما جرى بعدها من مواقف تتفتح أمامهم آفاق جديدة لا تقتصر على المهارة اليدوية فقط، بل تمتد إلى فهم عميق للجذور، وربط الحِرفة بحياة الناس، وظروفهم، وبيئتهم، لتصبح تلك المهارة في أعينهم ليست مجرد صنعة، بل حكاية ذات مغزى، ومصدر إلهام يدفعهم لاكتشاف هويتهم، وصياغة دورهم في حفظها وتطويرها. ومن هذا الإدراك المتجذر، تبدأ رحلتهم نحو الإبداع المعاصر؛ إذ يمكن لهؤلاء الصغار، وهم يحملون في ذاكرتهم حكايات الأجداد، أن يواكبوا العصر بأدواته وتقنياته، ويعيدوا تقديم تلك الحِرف برؤية مستقبلية تحفظ أصالتها، وتُلبسها ثوباً جديداً. هكذا، تتحول الحرفة من ماضٍ يُروى إلى مستقبل يُبتكر، حيث يخرج من بين أيديهم إنتاج عصري يجمع بين التراث والابتكار، ويخاطب ذائقة الجيل، من دون أن يفقد أصالة هويته. وقد أدركت وزارة الثقافة أهمية هذا الرصيد الشفهي بوصفه مكوّناً حيوياً في فهم الحِرفة وتاريخها وروحها؛ فأطلقت عدة مبادرات منها ما يستهدف توثيق المرويات الشعبية المرتبطة بالحرف، ودمجها في مشاريع المعارض، والورش، والبرامج التعليمية، كجزء من استراتيجية وطنية لإحياء التراث الحِرفي ليس كمنتج فقط، بل كحكاية وهوية. كما تعمل الوزارة على تمكين الحِرفيين المخضرمين من مشاركة تجاربهم مع الأجيال الجديدة، من خلال تنظيم لقاءات وندوات، وفتح مسارات للتعلّم المباشر لتُعيد للمجالس دورها القديم، ولكن بلغة الحاضر، وفي ذات السياق، يشكّل دعم الشباب الراغبين في تعلّم مهارات صناعة المشغولات التراثية أحد محاور عام الحِرف اليدوية 2025، حيث تُفتح الأبواب أمامهم لاكتساب المهارة عبر قصص الأجداد، وتفكيكها إلى دروس تطبيقية تُمارس وتُطوّر. بهذه الجهود، لا تكتفي الوزارة بالحفاظ على الحِرف كمنتج اقتصادي أو جمالي، بل تضعها في إطارها الأوسع كجزء من الذاكرة الثقافية الوطنية، وتحفّز المجتمع على إعادة قراءة تاريخه بأيدي الحِرفيين، وصوت الحكايات. فالذاكرة الشفهية لم تكن وسيلة نقل فقط، بل كانت روح الحِرفة، وملهمتها الأولى، واليوم، تُستعاد هذه الروح، لا لتُعرض في المتاحف فحسب، بل لتتجدد في يد كل شابٍ يعيد تشكيل مهارات أجداده بلغة المستقبل، هكذا، لا تعود الحِرفة مجرّد منتج يُباع، بل قصة تُروى، ومشهد من تاريخ طويل ظل حياً في الذاكرة قبل أن يُكتب على الورق.