في خطوة تؤكد مكانة المملكة كقوة اقتصادية صاعدة، خلص تقرير مشاورات المادة الرابعة للعام 2025 مع صندوق النقد الدولي إلى تقييم إيجابي شامل للسياسات المالية والاقتصادية التي تنتهجها السعودية. التقرير، الذي يصدر بشكل دوري بعد مراجعة دقيقة لأداء الاقتصادات الأعضاء، وضع المملكة في موقع متقدم، مشيرًا إلى أن ما تحقق من إنجازات لم يكن وليد ظرف مؤقت أو طفرة مالية، بل نتيجة إستراتيجية طويلة الأمد، نُفذت بانضباط، واستباقية، ورؤية طموحة تمتد حتى ما بعد 2030. التقييم جاء في وقت بالغ الحساسية على المستوى الدولي، إذ تزداد الضغوط على الاقتصاد العالمي بفعل التحديات الجيوسياسية، وتذبذب أسعار الطاقة، وتحولات سلاسل الإمداد. ورغم هذا السياق المعقد، استطاعت السعودية أن تحافظ على استقرار مؤشرات اقتصادها الكلي، وتحقيق نسب نمو تعكس عمق التحول الذي تشهده بنيتها المالية والمؤسسية، متجاوزة بذلك توقعات الصندوق السابقة، ومقدمةً نموذجًا في ضبط الإيقاع المالي دون إبطاء وتيرة النمو. المثير في نتائج التقرير ليس فقط الإشادة بأرقام الإيرادات والمصروفات أو توازن الموازنة، بل في الطريقة التي تم بها الوصول إلى تلك الأرقام. فالمملكة قد بنت سياسة مالية تستند إلى تنويع حقيقي في مصادر الدخل، وتوسيع للقاعدة الاقتصادية، مع التزام واضح باستدامة الإنفاق الرأسمالي الذي يخدم البنية التحتية والمشاريع المستقبلية دون أن يشكّل عبئًا على الميزانية. على مستوى الإيرادات غير النفطية، رصد التقرير تحسنًا نوعيًا يعكس نجاح سياسات التوسع الاقتصادي. ولم يكن هذا التحسن مجرّد ارتفاع في الحصيلة، بل نتاجًا لتحول جوهري في طريقة إدارة المال العام، بما يشمل الحوكمة، والأتمتة، والشفافية. وهذه كلها مؤشرات على أن التحول لا يقتصر على الشكل، بل يمتد إلى البنية العميقة لاقتصاد الدولة. كذلك، نوّه صندوق النقد الدولي بقدرة السعودية على تحقيق التوازن بين الإصلاحات المالية ومتطلبات الإنفاق الاجتماعي والاقتصادي، وهو توازن غالبًا ما يُصعَب تحقيقه في اقتصادات تمر بمرحلة انتقالية. فالدولة استطاعت الاستمرار في تمويل مشروعات إستراتيجية ضخمة ضمن برامج الرؤية، دون أن يتسبب ذلك في اختلالات مالية أو ارتفاع مفرط في مستويات الدين. واحدة من النقاط التي حظيت باهتمام خاص هي كفاءة الإدارة التشغيلية للمالية العامة. التقرير رصد قدرة المملكة على تنفيذ التزاماتها المالية بفعالية، وهو ما تم ترجمته من خلال تسريع إجراءات الدفع وتقليص متوسط الوقت اللازم لمعالجة أوامر الصرف، مما يعكس مستوى التناغم المؤسسي وسرعة الاستجابة داخل الجهاز المالي الحكومي.. كما لم يغفل التقرير التحولات الهيكلية في آليات التخطيط المالي. إذ أشار إلى تحسّن أدوات التنبؤ المالي والقدرة على المحاكاة متعددة السيناريوهات، وهو ما يُمكّن متخذي القرار من بناء خطط أكثر مرونة وقدرة على امتصاص الصدمات. وهذا المستوى من النضج في صناعة القرار المالي لا يُبنى في عام أو اثنين، بل هو نتاج تراكم معرفي ومؤسسي، يجري الآن توظيفه بكفاءة ضمن إستراتيجية وطنية متكاملة. في سياق آخر، أكد الصندوق على ما وصفه ب"الحضور المتزايد للسياسات السعودية في المنظومة الاقتصادية الدولية"، مشيرًا إلى أن أثر المملكة لم يعد محصورًا في حدود سوق الطاقة، بل بات يمتد إلى ملفات التمويل المستدام، والتحول الرقمي، والحوكمة المالية، وهو ما يُعزز من موقعها كشريك مؤثر في إعادة تشكيل قواعد الاقتصاد العالمي. وبينما تواصل كثير من الاقتصادات التعامل مع آثار ما بعد جائحة كورونا أو تداعيات الأزمات الجيوسياسية، تبرز السعودية كلاعب يتمتع بمساحة مناورة واسعة، واحتياطيات مالية مريحة، وأدوات مرنة لإدارة الدين، ما يجعلها في موقع قوة يسمح لها بالتحرك الذكي، دون أن تفقد بوصلتها التنموية أو تتنازل عن أولوياتها الاجتماعية. المشهد العام الذي رسمه التقرير لا يعكس فقط نجاح سنة مالية، بل يُجسد روح مرحلة جديدة من الأداء الحكومي المنضبط، إذ لم تعد الأرقام مجرد نتائج، بل أدوات تترجم الرؤية إلى واقع، والالتزام إلى منجز. وما ورد في تقرير مشاورات المادة الرابعة لهذا العام ليس إشادة فقط، بل شهادة ثقة من واحدة من أهم المؤسسات المالية في العالم، بأن السعودية على المسار الصحيح، وبأنها لم تعد مجرد متلقٍّ للتقييمات، بل صانعة لتجربتها، ومصدّرة لنموذج يستحق أن يُحتذى. وكان المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي قد اختتم في 28 يوليو 2025 مشاورات المادة الرابعة مع المملكة العربية السعودية، في ظل التقدم في تنويع نشاطها الاقتصادي، حيث أثبتت المملكة العربية السعودية قدرتها على الصمود بقوة في مواجهة الصدمات الخارجية. ففي عام 2024، حقق إجمالي الناتج المحلي الحقيقي غير النفطي نمواً قدره 4,5 %، مدفوعاً بقطاعات تجارة التجزئة والضيافة والبناء، وفي الوقت نفسه أدى تخفيض الإنتاج بموجب اتفاقية أوبك+ إلى استمرار إنتاج النفط عند 9 ملايين برميل يومياً، مما أدى إلى انخفاض بنسبة 4,4 % في إجمالي الناتج المحلي النفطي، وتراجع النمو الكلي إلى 2 %. وظل التضخم قيد الاحتواء، مع استمرار تباطؤ الارتفاع في إيجارات المساكن. وتراجع معدل بطالة المواطنين السعوديين إلى مستوى قياسي، في حين انخفضت معدلات بطالة الشباب والنساء بمقدار النصف على مدار فترة بلغت أربع سنوات. وتحول الحساب الجاري من فائض نسبته 2,9 % من إجمالي الناتج المحلي في 2023 إلى عجز بلغ 0,5 % من إجمالي الناتج المحلي، يُمَوَّل بصورة متزايدة من خلال الاقتراض الخارجي والحد من تراكم الأصول بالنقد الأجنبي في الخارج. وبرغم هذه التحولات، استقر صافي الأصول الأجنبية لدى البنك المركزي السعودي (ساما) بقيمة قدرها 415 مليار دولار، أي ما يغطي187 % من مقياس صندوق النقد الدولي لكفاية الاحتياطيات. ولا يزال القطاع المصرفي قوياً، يتسم بارتفاع رأس المال والربحية، مع بلوغ القروض المتعثرة أدنى مستوياتها منذ عام 2016.