في عالم الاقتصاد، لا تتحرك الأرقام في فراغ، بل تسبقها أو تصاحبها موجات من التصريحات، والتقارير، والتغريدات، وكل ما يُصنَّف تحت مسمى "الرأي الاقتصادي" ولم يعد هذا الرأي ترفًا فكريًا أو مادة للنقاش العابر، بل أصبح عنصرًا فاعلًا في حركة الأسواق، وقرارات المستثمرين، وبناء الثقة أو تقويضها بين أطراف المشهد الاقتصادي، فعندما يأتي الرأي محمّلًا بالتحليل الرصين والمعرفة العميقة، يغدو أداة فاعلة في توجيه السياسات وتحفيز الإصلاح، وقد رأينا كيف قادت تحليلات مسؤولة إلى مراجعات جوهرية أثمرت عن تحولات إيجابية، بدأت بفكرة ونضجت إلى قرار وفي المقابل، هناك آراء تفتقر إلى الأسس المعرفية، تنطلق من انطباعات شخصية وتحركها أجندات خفية، آراء هدفها الإثارة لا التنوير، تزعزع الثقة عبر مبالغات لا تستند إلى واقع، تُلبس التهويل ثوب التحليل، تتداول هذه الآراء في بيئات رقمية تفتقر إلى التحقق والتمحيص، فتتسلل إلى وعي المتلقي دون مقاومة، وتشكل في النهاية ضغطًا نفسيًا وسلوكيًا على المستثمر وصانع القرار، مما يدفع الأسواق إلى تذبذب غير مبرر، وعلى الطرف الآخر، يواجه بعض الاقتصاديين الجادين حالة من الحساسية المفرطة لدى بعض الجهات تجاه أي رأي ناقد، حتى وإن كان موضوعيًا، ومدعومًا بالبيانات، وهذا قد يخلق فجوة خطيرة بين صانع القرار والمراقب المهني، ويقلّص من فرص التحسين عبر النقاش المسؤول، فليس كل نقد تهجمًا، وليس كل رأي معارضًا خصمًا، بل أحيانًا يكون صوت النقد هو ما يحفظ التوازن ويوقظ الانتباه لمواطن الخلل. الرأي الاقتصادي ليس كلمات عابرة، بل قوة ناعمة، قادرة على تحفيز الإصلاح أو التسبب في الإرباك، على بناء الثقة أو تقويضها، ولهذا فإن حرية التعبير في هذا المجال ليست مطلقة، بل مشروطة بالفهم، والتثبت، والانضباط، فالمجتمعات لا تحتمل التضليل، والأسواق لا تحتمل التهويل، والاقتصاد لا يحتمل أن يصبح الرأي فيه سلعة منفلتة من قواعد المسؤولية، فالرأي ليس خصمًا للقرار، بل مكمل له إذا صيغ بعقل، وكانت غايته الصالح العام.