فيروز، ومعها الرحابنة، مكون رئيس لذائقتي الموسيقية، ولهويتي الذاتية أيضاً، أدمنت سماعها في شبابي المبكر، منذ ما قبل انعطافاتها الفنية مع زياد، في «كيفك انتا». وفي تلك المرحلة، مثلت لي «العلامة» على اختياراتي الفنية والأدبية والفكرية أيضا، رحلتي معها طويلة، عناصرها ليست فقط الموسيقى والغناء، بل شملت أيضا الإبداع والفن والشعر والتاريخ والرؤية لدور الفنان وموقعه المجتمعي، في بواكير العشرينات كنت ولم يكن في سيارتي من أشرطة إلا لها، يركب معي أحيانا صديق مصري درعمي يعمل في الصفحات الثقافية في مجلة اليمامة، قال لي مرة إن ما يميز المشاوير معي المصاحبة الأزلية لفيروز، وكان سماع ذلك من مصري درعمي منحاز، بطبيعة تأهيله، للريادة المصرية على حساب الشامية، فتحاً بالنسبة لي. ومرة كنت خارجاً من ندوة أدبية ومعي في السيارة الأديب عبدالله نور وفيروز تصدح والرجل في حالة صمت عميق، أردت أن أقطع الصمت فأوقفت المسجل، وإذ به ينتفض محتجاً على بتر الحالة الفنية التي أدخلتها إياه فيروز، وبروحه الساخرة علّق: طالع من ندوة أدبية معلق فيها لوحة «ممنوع التدخين» ويوم عيشتني فيروز حالة تجلي، تقطعها عليّ! هكذا مثلت فيروز لمثقفين كثر عالم فني موازي لواقع ثقافي كانت سمته التنازع بين الحداثة والتقليد. من رياض الثمانينات، أتذكر محل تسجيلات افتتح باسم «فيروز»، في نهاية شارع الأربعين (شارع عمر بن عبدالعزيز) ناحية الغرب، وقبيل انتهائه في شارع الستين (شارع صلاح الدين)، يعمل في المحل شاب سوري ملتحي، شكله يوحي ببوهيمية الفنانين في ذلك الوقت. بدا لي «ملتزماً» حيال فن فيروز أكثر من كونه متربّحاً من بيع أغانيها، بضاعته متمحورة أساساً حول فيروز والرحابنة، جئته مرة طالباً شريطاً لمسرحية فيروز «صح النوم». أجابني، مستنكراً، أن «صح النوم» مسلسل لغوار الطوشة وليس عملاً لفيروز، إجابته مثلت ما يشبه الجرح النرجسي لي. صدمني مرتين، أنه لا يعرف أن لفيروز مسرحية بهذا الاسم، وأنه يتعامل مع معرفتي بتراثها بهذا الاستخفاف، بحثت عن شريط للمسرحية حتى وجدته بعد أيام فابتعت نسختين، نسخة لي ونسخة له. دخلت المحل، بزهو، ودفعت بالشريط للشاب قائلا: «هذا الشريط يحوي مسرحية صح النوم لفيروز. جئتك به كي يكون جزءا من موجودات المحل، إذ لا يليق بمحل يحمل اسم فيروز أن لا يحيط صاحبه بأعمالها»! الموقف والحوار بعيدان جدا عن تفاعل بائع ومستهلك، لست متفردا بهذا «الالتزام» نحو فن فيروز وإرثها، هكذا كان حال كثير من مستمعيها. ومن نفس المحل، ابتعت إصدار زياد الرحباني الجديد، وقتها، «انا مش كافر» وصدمت بخطابية الكلمات ومباشرتها حد الابتذال الفني: «يللي بيصلّي الأحد ويللي بيصلي الجمعة وقاعد يفلح فينا على طول الجمعة هوّ يللي ديّن قال وأنا يللي كافر عال راجعوا الكتب السماوية راجعوا كلام القادر». الكلمات وعظية، فجة، وبعيدة عن أشعار الرحابنة، عاصي وأخيه، والتي كانت مطبوعة بالنفس الحداثي للصور والأخيلة وبعيدة عن المباشرة. أغاني الشريط كانت أشبه بمنشور شيوعي تحريضي منه بعمل فني! حضرت حفلتها في البحرين، 1987، وكتبت عن التجربة قطعة أدبية نشرتها في مجلة اليمامة. لاحظت حينها الحضور الكثيف من عرب من مختلف المشارب. تذوق الأغنية والموسيقى الرفيعة كاف للاستمتاع بصوت فيروز. وفي سنة 1994 كنت في دمشق برفقة أصدقاء، قادمين بالسيارة، وعرفنا أن فيروز ستحيي حفلة في بيروت، حاولنا الدخول إلى لبنان فردّتنا الجمارك السورية، بحجة أن سيارتنا دخلت من الحدود الأردنية ولا تخرج من سورية إلا عبر نفس المنفذ، عدنا إلى دمشق محبطين وفي اليوم التالي راجعنا دائرة الجمارك في دمشق من أجل السماح لنا بالسفر برا إلى بيروت، حصلنا على الموافقة ووصلنا إلى موقع الحفل، ساحة النجمة وسط بيروت قبيل انطلاق الحفل بأقل من ساعة. اشترينا تذاكر على عجل من السوق السوداء وترتبنا وحلقنا ذقوننا خلف سيارتنا. وقتها، كان رفيق الحريري يعيد بعث ألق المدينة الخارجة من الحرب، ويحاول بناء الهوية الوطنية اللبنانية الجامعة، فما رأى أنجح من أن يجمع اللبنانيين حول أيقوناتهم الوطنية، ساحة النجمة وفيروز وموسيقى الرحابنة. كانت لحظة مهيبة الحضور لفيروز وسط مواطنيها المجتمعين حولها بعد عقود من التطاحن. في التسعينات، كان إصدار «كيفك انتا» ليثير ضجة بين محبي فيروز على طول العالم العربي. الكلمات كانت بسيطة ومباشرة، وإن لم تكن وعظية. لكنها مثلت نقلة في موسيقى فيروز، وإضافة عظمى للموسيقى العربية بشكل عام، أحد الطروحات وقتها أن الأغنية تتكون من ثلاثة أضلاع، صوت وموسيقى وكلمات. وأن أغاني فيروز، مع عاصي ومنصور، بلغت الأوج في الصوت والكلمات. فيما أن ضلع الموسيقى فيها هو الأضعف. وأن زياد تعمّد أن يضعف الكلمات، لصالح الموسيقى، التجديدية، والصوت فقط، باعتبار أن المستوى الفني الرفيع لكلمات الرحابنة يذهل المستمع عن الحمولة الموسيقية في أغاني فيروز. وبالفعل، فإن موسيقى أغنية «كيفك انتا» جاوزت الكلمات في إيصال اللوعة على حب قديم. على صوت فيروز، إذاً، وصّل زياد محاولاته الموسيقية الجريئة والعبقرية بدمج إرث الجاز والبلوز والموسيقى الغربية عموما مع مقامات الموسيقى العربية، فأنتج قطعاً موسيقية كانت صوتاً متفرداً بأصالة أظهرت العبقرية الفنية الفذّة لنتاج فيروز وعاصي. ولئن شاب الإنتاج الموسيقي للأباء المؤسسين، أي عاصي ومنصور، «الاستعارة» من ألحان موسيقية في ثقافات مختلفة، فقد ميز إنتاج الابن الإبداع الموسيقي الصرف والمقطوعات التي مزجت الجرأة والموهبة. مثلت فيروز، ومعها زوجها واخيه وابنها، حالة فنية في وجدان أجيال من مختلف أقطار العرب. ومحلياً، صار محبو أغاني فيروز موطن سخرية «التباهي بالثقافة»، سخر منهم الكتاب ورسام الكاريكاتير والمغردين. مؤكدين، بسخريتهم، المكانة الرفيعة لفيروز، صوتا وكلمات وموسيقى. وكان تتبع صوت فيروز وموسيقاها، والجدل حول الأعمال والتجريب عملا معتاداً لطائفة من متذوقي الموسيقى وحاملي الأفكار ومحبي الشعر الحداثي. مثلت فيروز وإرث الرحابنة حالة متمايزة عن عمد عن أي مطربة وموسيقى. معها، يتجاور الفن والتجريب والالتزام ومفاهيم تشمل الوطن والسلام والمقاومة والعدالة الاجتماعية. محاولات رفيق الحريري لأن يحكم اللبنانيون أنفسهم اصطدمت بتحجر بشار الأسد، الذي رأى أن أفضل حل للتعامل مع الطموح اللبناني هو تفجير أجساد السياسيين والكتاب المناوئين لهيمنة سورية على بلادهم، ملحقاً رفيق الحريري وجبران تويني وسمير قصير بالدفعات التي أرسلها أباه قبله، مثل كمال جنبلاط وحسن خالد وبيار الجميل وسليم اللوزي. ومع التمدد الإيراني في المنطقة، واستيلائها على ورقة «المقاومة» وأهوال الحرب السورية، تفجّر الشرق. وفاضت إلى السطح تشظياته التاريخية المتراكمة، مترافقة مع قدرات الحداثة على التدمير وتوفير منصات للتلاسن والتطاحن. ونزلت الإحن الدينية والطائفية والسياسية والأيديولوجية من المؤسسات إلى الأفراد، لتصبح خبزاً يومياً لشعوب الهلال الخصيب. غرق زياد الرحباني في وحول السياسة وتدحرج به موقعه الأيديولوجي إلى نصرة ميلشيا عسكرية محلية وكيلة، بشكل مكشوف، لإمبريالية حكم ديني هيمن على قرار الوطن اللبناني ودمّر مدن الهلال الخصيب مشعلاً بين شعوبها حرائق طائفية لن تنطفئ ولو بعد ألف عام! وجه زياد إهانة موجعة للمفاهيم التي آمن بها، كالوطن والعدالة والحرية، فناصر قوة خارجية مهيمنة على وطنه، وتبنى سردية نظام فاشي قتل مئات الالاف من شعبه وشرد الملايين منهم. كلما سمعت موقفا مؤيدا منه لنظام الأسد تذكرت صوت أمه يصدح في مسرحية «بترا»: روما، يا وحش الحضارة إل مابيشبع. روما، يا جبان وع الصحرا بيطلّع. زياد، الساخر السليط، طّوع ذرابته اللفظية لطلء مفخخات الأسد وحزب الله بزخارف المعجم اليساري البرّاق. على المستوى الشخصي، كان الأمر أسوأ. إذ طالت المزايدات، الملوث بها خطاب اليسار تكوينياً، طليقته، فَرَصَّ، في اغنية «مربى الدلال» كل ألفاظ البساطة والصدق والحب بنفسه ورمى الشريكة السابقة، وأباها، بنعوت الجشع والطمع! لحظة وفاة زياد لحظة أيضا لاستحضار المقدار الذي تغير به الشرق، منذ رافقتُ فيروز والرحابنة منذ الثمانينات وحتى اليوم. السوري، اليوم، لن يفتح محل تسجيلات باسم «فيروز»، بل هو مشغول بتذكر المواقف المشينة لابنها من عذابات السوريين. والمثقف السعودي، إذ يستذكر عظمة موهبة زياد، يستذكر معها مواقف زياد السياسية الغير متسقة ليس فقط مع فنه، بل حتى ومع أيديولوجيته. المواطنون اللبنانيون لم تعد تجمعهم فيروز حولها، كما فعلت في ساحة النجمة قبل ثلاثين عاما. بل تزاحموا حولها ليحولوا جنازة ابنها طقسا للتلاسن والفرقة وتذكر الأحقاد، خاصة بين فريقي القوات والحزب. كان لزياد موهبة موسيقية لم يمتلكها أبوه ولا عمه، فأبدع وحوّل مناداته الدائمة بإثراء الموسيقى العربية بالأدوات النفخية وارث الموسيقى الغربية إلى قطع موسيقية بديعة. لكنه افتقد ل»الحدس» السياسي الحصيف، ففرّق مشاعر الناس حوله وحول تراث والديه. لو لم ينفجر الشرق بالطائفية والحروب الأهلية، لو لم تتمدد الإمبريالية الإيرانية، لكنت اليوم أعيش مراسم وفاة زياد بنفس الصفاء الذي كنت أحس به وأنا أخطو إلى «ستريو فيروز» في شارع الأربعين قبل التقائه بشارع الستين في رياض الثمانينات.