في عالمٍ تتصارع فيه المصالح، وتتقلّب فيه الأسواق كما تتقلّب الرياح في عرض البحر، تظل المملكة العربية السعودية سفينة تمضي بثبات في مهبّ التحديات، لا تكسرها موجة ولا تربكها العواصف، تُبحر برؤية استثنائية، يقودها فكر أعاد رسم ملامح الاقتصاد السعودي، لا بوصفه أرقامًا صمّاء، بل مشروعًا وطنيًا نابضًا بالحياة، يتجاوز حدود الحاضر، ويضع الإنسان والمكان في صميم التنمية، لا على هامشها. في الربع الثاني من عام 2025، تجلت ملامح هذا المشروع بوضوح، لم تعد أسعار النفط تملي الإيقاع الاقتصادي كما كانت تفعل في الماضي، ولم يعد تراجعها ناقوس خطرٍ يهز الأركان، فقد وُلد اقتصادٌ جديد، متماسك في جوهره، متنوع في أدواته، يعكس صلابة الرؤية التي تقود المملكة، بلغ إجمالي الإيرادات 302 مليار ريال، متأثرًا بانخفاض أسعار النفط، لكن اللافت أن الإيرادات غير النفطية ارتفعت إلى 150 مليار ريال، محققة نموًا قدره 7 %، في مشهد لا يمكن قراءته دون أن نتذكر تلك العبارات الأولى التي أطلقها سمو ولي العهد، حين قال إن النفط ليس قدرنا، وإن المستقبل لمن يخطّه بإرادته لا لمن ينتظره بقلق، أما النفقات، فقد تمت إدارتها برشادة ووعي، فوصلت إلى 336 مليار ريال، بانخفاض قدره 9 % عن نفس الفترة من العام الماضي. وعلى الرغم من تسجيل عجز قدره 35 مليار ريال، إلا أنه لم يكن عجزًا مقلقًا، بل جزءًا من سياسة مالية توسعية واعية، تستثمر في المشروعات الكبرى وتضع اللبنات الأولى لما سيكون عليه الوطن في العقود القادمة، العجز هنا ليس نزفًا، بل قرار استراتيجي، يوازن بين الاستدامة والفرص، ويعيد تعريف معنى الإنفاق الحكومي، ليصبح أداة لبناء المستقبل، لا مجرد تسيير للحاضر، وراء الأرقام، يكمن نبضٌ حقيقي يُسمع في الأسواق، ويُرى في عيون الناس وثقة المستثمرين، فمؤشر الإنفاق بفضل الرؤية.. أسعار النفط لم تعد تملي الإيقاع الاقتصادي الاستهلاكي ارتفع بنسبة 9.1 % خلال أول شهرين من الربع، ومؤشر التجارة الإلكترونية قفز بنسبة 63.1 %، ومدفوعات "سداد" سجلت نموًا بنسبة 28 %، أما مؤشر مديري المشتريات فقد حافظ على بقائه فوق مستوى ال50 نقطة لأكثر من أربع سنوات متتالية، وهو ما يشير إلى توسع مستمر في النشاط الاقتصادي وثقة ثابتة في قدرة السوق على التجدد، سوق العمل لم يكن بمنأى عن هذا التحول، فقد سجلت معدلات البطالة بين السعوديين انخفاضًا تاريخيًا لتبلغ 6.3 %، وهو رقم لا يعكس فقط نجاح برامج التوظيف، بل يدل على أن القطاع الخاص بدأ يتحول من شريك محتمل إلى محرك حقيقي في عملية التنمية، المشاريع تتوالد، والاستثمارات تتسارع، والفرص تتسع، وكل ذلك تحت مظلة رؤية تعرف تمامًا إلى أين تمضي، وكيف تبني بيئة لا تكتفي بتوفير الوظائف، بل تُلهم الطموحات وتوقظ الإمكانات، الناتج المحلي الإجمالي حقق نموًا بنسبة 3.4 %، كان للقطاع غير النفطي النصيب الأوفر فيه، بنمو قدره 4.9 %، ما يثبت أن محرك الاقتصاد الجديد قد بدأ بالفعل بالدوران، وأن الاعتماد على الطاقة التقليدية أصبح خيارًا من بين خيارات، لا الإطار الوحيد الممكن، إنها نقلة فكرية قبل أن تكون اقتصادية، حيث لا يُقاس النجاح بارتفاع الإيرادات وحده، بل بقدرة الدولة على بناء اقتصاد يتنفس من رئة متعددة، لا من أنبوب واحد، وحين نتأمل في تفاصيل الميزانية، نقرأ أكثر من مجرد أرقام، نقرأ نضجًا في التفكير، ومرونة في السياسات، ورغبة صادقة في تحويل كل ريال يُنفق إلى قيمة مضافة، الاحتياطيات التي بلغت نحو 397 مليار ريال، ليست مجرد رقم مدوّن في التقارير، بل تعبير عن ثقافة جديدة في إدارة المال العام، قائمة على التحوط، والتخطيط، والكفاءة. هذه ليست دولة تُجاري تقلبات السوق، بل تصوغ إيقاعها، لا تترقب التحولات، بل تصنعها، تقودها قيادة تقرأ الأرقام بعيون الاستشراف، وترى في كل تحدٍّ فرصة، وفي كل مشروع بذرة لغدٍ أعظم، فالمملكة اليوم لا تكتب فصلاً جديدًا في اقتصادها فحسب، بل ترسم سردية وطنية عن العزم، وتؤسس لمستقبل لا يُبنى بردّات الفعل، بل بتصميم استباقي، وإرادة لا ترضى بأقل من القمة. إنها مسيرة وطن لا يرضخ للظروف، بل يعيد تشكيلها على مقاس طموحه، ويواصل السير بخطى واثقة نحو الأفق، مؤمنًا أن ما ينتظره ليس مجرد مستقبل، بل مستقبل يصنعه بيده.