تمثل الشخصية الدرامية حجر الأساس في أي عمل فني ناجح، وهي التي تمنح القصة روحها وتمنح الأحداث معناها ومسارها، ومن دون شخصية قوية ومبنية بعناية، تبقى الحكاية سطحية، مهما كانت فكرتها لامعة أو حوارها مشوقًا. فبناء الشخصية ليس مجرد رسم ملامح كما جرت العادة في المسلسلات الكلاسيكية التي مرّت علينا، بل هو هندسة معمارية دقيقة، تشبه إلى حدّ قريب تصميم منزل بكل تفاصيله. في تلك اللحظة يولد كيان متكامل نابض بالحياة، يقوده ماضٍ غير مرئي، وصراعات متشابكة، وتحولات نفسية تحاكي واقع الإنسان. الفكرة أنها مثل البيت المتين، لا ينهض بلا أساس، لا تستقيم الحكاية دون شخصية ذات تماسك داخلي وتناسق خارجي. الشخصية الدرامية تنشأ من دوافع نفسية، وتجارب عاطفية، وعلاقات اجتماعية، حيث يبدأ الكاتب عادة بصياغة الخلفية العاطفية والفكرية للشخصية، حتى يتكون لها صوتاً داخلياً مستقلاً، هذا الصوت هو ما يوجه قراراتها، ويظهر انعكاساتها في المواقف المختلفة، وغالباً لا يذكر الماضي صراحة، لكنه يتسرب في النظرات الحادة، وفي لحظات الصمت، وفي الانفعالات التي لا تفسر بالكلام. ومع تطور الحكاية، تتطور الشخصية معها، حيث تضاف لكل مرحلة طبقة جديدة تكشف أعماقاً خفية، أو تهدم قناعات قديمة، وتبني بدلاً منها تصورات جديدة، وهذه العملية المستمرة تمنح الشخصية حيوية تجعلها تتفاعل وتنمو وتفاجئ، دون أن تفقد تناسقها الداخلي مهما بلغت الأحداث تعقيدًا. ولا يكتمل بناء الشخصية إلا حين يترجم إلى الشاشة. يأتي دور الأداء التمثيلي، حيث تنقل الشخصية من الورق إلى الصورة، عبر ملامح الوجه، ونبرة الصوت، وحركة الجسد، فالكلمات وحدها لا تكفي لصناعة شخصية، بل الصدق في الأداء هو ما يمنحها الحياة. كذلك يلعب الإخراج دوراً حاسماً، عبر توزيع الإضاءة واختيار زوايا التصوير، التي تبرز جوانب الشخصية وتعمق فهم الجمهور لها. في السنوات الأخيرة، بدأت الدراما متجهة نحو شخصيات أكثر عمقا وتعقيداً، وأبرز الأمثلة على ذلك، شخصية «عاثر» التي قدمها الفنان محمد العيسى في مسلسل «عسى ما شر»، فقد جسد العيسى شخصية رجل بسيط، يعيش تداخلًا بين الكوميديا والوجع الداخلي. لم يكن «عاثر» مجرد شخصية هزلية، بل نموذجا إنسانيا يعكس التناقض بين الأحلام الصغيرة وخيبات الواقع، هنا تكمن إمكانيات النجم محمد العيسى والتي تظهر من خلال أداءه الصادق، المليء بالتردد، والانفعالات الصامتة، ونظراتٍ تحمل أكثر مما تقوله الكلمات. هذا الدور قدم مثالاً واضحاً على أن بناء الشخصية لا يتوقف عند النص، بل يمتد إلى الممثل، والإخراج. الأمثلة كثيرة في هذا الجانب، بينها شخصية مرزوق المطرب المتطلع في مسلسل «أخواني أخواتي» وشخصية «السلمي» في طاش ما طاش»، مؤكد أن هناك شخصيات وممثلون على نفس الخطى، والذي يصنع الشخصية وكل تفصيلة الحقيقية في عين المشاهد، وترسخها في ذاكرة المجتمع.