من منا لا يخشع حينما يستمع إلى تلاوته العطرة، حيث سجلت هذه القراءة 1389ه القرآن كاملاً، ومنذ ذلك التاريخ وإذاعة القرآن الكريم تبثها، فكانت إحدى التلاوات المشهورة التي كانت تذاع مع بقية القراء أمثال محمد صديق المنشاوي، وعبدالباسط عبدالصمد، ومحمود خليل الحصري، إنه المقرئ والمربي والمُعلّم والشيخ عبدالله بن عبدالغني خياط -رحمه الله-، أستاذ الأمراء وشيخ العلماء الذي أجمع كل من عرفه أو اتصل به أنه من الرجال الصالحين الزهاد ومن أهل الورع والتقى والفضل والخلق الكريم، كان نادر الخروج من مكةالمكرمة وكان يتمنى الدفن بها وحقق الله له ما يريد، وله صديق صدوق زامله في التدريس والدراسة وسكنا في الرياضومكة منزلاً واحدًا وتزوجا أختين هما ابنتا الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة -رحمه الله- وهو التربوي والمؤرخ أحمد بن علي الكاظمي –رحمه الله-. ومن المُفرح والمُبهج أن شخصيتنا نشر مذكراته أو ذكرياته في صحيفة عكاظ بعنوان "لمحات من حياتي"، ولعل هذا اقتراح من الصحيفة ونعم الاقتراح، ولولا ذلك لظلت هذه الذكريات حبيسه صدر شخصيتنا ولدفنت معه حينما غادر الدنيا، مع أنه رحمه الله لا يحبذ الحديث عن نفسه وحياته فهو زاهد في كل شيء، لذلك استفدت من ذكرياته في كتابة هذه الأسطر القليلة عنه. وُلد عبدالله خياط في مكةالمكرمة 1326ه، فكانت أول مدرسة تطأها قدماه هي مدرسة محمد الخياط بالمسعى، يوم أن كان المسعى خارج المسجد الحرام، ثم دخل مدرسة يطلق عليها المدرسة الراقية وأمضى فيها سنتين وكان يُدرس فيها العلوم الإسلامية واللغة العربية والجغرافيا والتاريخ. درس شخصيتنا على علماء بالمسجد الحرام ومنهم العالم أبو بكر خوقير، درس عليه سنن الترمذي، وعلى القاضي سليمان بن حمدان، درس عليه عمدة الأحكام، وعلى عبيدالله السندي، درس عليه موطأ مالك، ثم بعد ذلك حفظ شخصيتنا القرآن الكريم عند المعلم حس عرب، ولقد يسر الله عليه حفظ القرآن في تسعة أشهر، وهذا مدة وجيزة جدًا، وكانت المدرسة التي حفظ فيها القرآن الكريم هي المدرسة الفخرية، ومن هنا ومن جانب آخر فإن شخصيتنا درس على إمام وخطيب المسجد الحرام عبدالظاهر أبو السمح وعلى محمد عبدالرزاق حمزة، وكذلك قرأ على رئيس القضاة الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ جملة من الكتب، وكان يقرأ عليه الكتب المطولة. رقيق القلب وكما ذكرت في مواضيع سابقة أن أول ثانوية نظامية تؤسس في عهد الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله- هي المعهد العلمي السعودي، وكانت الدراسة في المعهد على النظام الحديث، حيث مناهج محدودة ولكل مادة مُعلّم، وكانت تدرس في المعهد مادة الجبر والهندسة والجغرافيا واللغة الإنجليزية، فضلاً عن اللغة العربية ومادة الفقه الحنبلي، تخرّج عبدالله خياط -رحمه الله- من المعهد 1350ه. وعرف عن شخصيتنا حسن التلاوة، وكان لأدائه تميَّز عن غيره من القراء في زمنه، كانت قراءته على طريقة الحدر وهي التي تقرأ في الصلوات الجهرية، لكنها متأنية، لهذا كان تعيّن إمامًا في إحدى مساجد مكة، ثم بعد ذلك صدر أمر مكي بتعيينه إمامًا بالمسجد الحرام مساعدًا لإمامه الشيخ عبدالظاهر أبو السمح، وبعد انتقال شخصيتنا مديرًا لمدرسة الأمراء بالرياض ترك الإمامة، ثم لما رجع إلى مكةالمكرمة تعين مرة أخرى إمامًا وخطيبًا بالمسجد الحرام بتاريخ 6 /2 /1376ه، كانت خطبته تتسم بالخشوع وكانت دمعته حينما يتلو آيات الوعيد تنهمر من عينيه، فهو سريع الدمعات دائم البكاء والخشية، رقيق القلب، يتألم لبعض مصاب المسلمين في العالم، وقد طبعت خطبه بالمسجد الحرام وامتازت بالوعظ المؤثر الذي يخرج من القلب. أفكار تربوية وكان التدريس من أوائل المهن التي عمل بها عبدالله خياط -رحمه الله- في مكةالمكرمة بعد تخرجه، فقد درّس في المدرسة الفخرية؛ ودرّس فيها التوحيد والقرآن، ثم طلب منه مدير المعهد العلمي السعودي أن يدرس القرآن الكريم في بعض فصول المعهد واستجاب لهذا الطلب؛ ونظرًا لحسن ظن رئيس القضاة آنذاك بشخصيتنا وكفاءته رشحه أن يكون مديرًا للمدرسة الفيصلية، وجاءت الموافقة من المقام على تعيينه مديرًا لهذه المدرسة، كان شخصيتنا لديه أفكار تربوية وتعليمية، وحينما تسلم الإدارة وكان يريد أن يرتقي بالعملية التعليمية وإلى ما هو أحسن وأفضل مستفيدًا من خبرته ومن قراءته في أصول التعليم والتربية الحديثة التي توافق التعاليم الإسلامية، فليس ذاك الإداري أو المعلم التقليدي أو النمطي، بل يبتغي التجديد والتطوير والتحديث في أساليب ووسائل التعليم، فهو مربي ومعلم من الطراز الأول، لم يقدر أن يطبق بعض النظريات الحديثة التي استفادها من التعليم الحديث، لكنه لم يعدم التجربة والخبرة واتضح له فيما بعد أن العلم بالشيء ليس من السهل دائمًا تطبيقه على الواقع. نقلة استثنائية تعيّن عبدالله خياط -رحمه الله- بعد ذلك مديرًا لمدرسة الأمراء، وكانت نقلة استثنائية في حياته، ومرحلة لا تمحى من ذاكرته، وقد أفرد لها صفحات كثيرة سرد فيها يومياته في هذه المدرسة، فهي مدرسة الأمراء أبناء الملك المؤسس -رحمه الله-، وللقارئ أن يطلع على هذه اليوميات التي سجلها، وصور فيها كل المشاهدات في الرياض وخارج الرياض، حيث تنتقل المدرسة بمعية الملك المؤسس في متنزهات الربيع أو رحلات الصيف والعيد؛ وقد قابل شخصيتنا الملك عبدالعزيز في قصره بمكةالمكرمة، وكان في معيته مدير المعارف الرائد التعليمي طاهر الدباغ، ومعه محمد صالح الخزامي وأحمد الكاظمي، وتشرفوا بالسلام عليه، ووضح لهما المنهج الذي يسيرون عليه في مدرسة الأمراء، وبدأت الدراسة في مكةالمكرمة، وقد رفع المنهج الدراسي إلى المؤسس، فوافق عليه وبدأت المدرسة عملها من أول يوم على هذا المنهج، وكان ذلك عام 1356ه، وكان افتتاح المدرسة على شرف مدير المعارف، وكانت في حي المعابدة، وسارت الدراسة على خير ما يرجو المعلم والمتعلم في مواعيد محددة بالساعة الزمنية بداية ونهاية، ولاهتمام الملك عبدالعزيز بالدراسة كان كثيراً ما يسأل أنجاله عما درسوه ويراجع كراساتهم، واستمرت الدراسة في مكة فترة لم تكن طويلة إذ قد حان موعد توجه الملك إلى الرياض، فتعطلت الدراسة في مكة على أمل استئنافها في الرياض، ثم انتقلت المدرسة إلى العاصمة، حيث أمر الملك بذلك؛ لأنه سوف يغادر مكة إلى الرياض، وقد جسد شخصيتنا هذه الرحلة من الحجاز إلى نجد واصفًا كل موقع ومورد تمر به السيارة أو المكان الذي يستريحون فيه إمّا للنوم أو لتناول الطعام، وقد كان زميله ورفيق دربه أحمد الكاظمي يُدون كل ما يراه وقد نشرت يومياته اعتقد الجزء الأول. ختمة مشاري وبعد الوصول إلى الرياض استأنفت الدراسة، وكما يذكر عبدالله خياط -رحمه الله- أن الملك المؤسس -رحمه الله- كان يتابع أنجاله في دراستهم وكل ما له علاقة بالمدرسة، ويرى شخصيتنا ثمرات هذه المدرسة، ويذكر في هذه المناسبة حينما ختم صاحب السمو الملكي الأمير مشاري بن عبدالعزيز -رحمه الله- القرآن فتقام العرضة، وقد أقامت المدرسة حفلاً بمناسبة ختم سمو الأمير مشاري للقرآن الكريم، وقد أخبرت المدرسة الملك المؤسس بهذا الأمر، لهذا أقيمت العرضة، ولأول مرة شخصيتنا وطاقم المدرسة يشاهدون العرضة، يذكر هذا قائلاً: لم يكن لهيئة المدرسة سابق علم بأن هذه المناسبة مناسبة ختم القرآن الكريم لها شأن عظيم عند الأسرة المالكة، وعلى رأسها الملك، ودهشت عندما أعلن إقامة العرضات في الرياض لهذه المناسبة في يوم 18 /8 /1356ه، وقد عطلت الدوائر الرسمية لاشتراك الأهالي والموظفين في العرضة، وفي صباح يوم العرضة نظم القصر الملكي مأدبة إفطار دُعِي إليها أطفال الكتاتيب ومعلموهم، كما دُعِي أيضًا هيئة التدريس في مدرسة الأمراء، وبعد المأدبة خرج الأمير مشاري الخاتم للقرآن وخلفه إخوانه وزملاؤه يمتطون صهوات خيولهم، ووراءهم أطفال الكتاتيب يرددون «صومعي لومعي»، ولعل هذه الكلمة تحكي واقعهم إذ فسرها بعضهم بأنها محرفة من «سامعين لامعين»، أي سامعين لكلام الله لامعين سيوفنا، ومن الممتع الطريف أن يحمل الأطفال سيوفًا يُشهرونها في أيديهم بعد خروج الأمراء من القصر، وابتدأت العرضة أول الأمر من قبل الأهالي تحت قصر الحكم، ثم اشترك فيها الأمراء، وأخيرًا تحمس الملك عبدالعزيز وانضم إلى العرضة والسيف في يده، فَسَرَت موجة الفرح في الحاضرين وزاد النشاط والحماس واستمرت العرضة إلى الساعة الخامسة والنصف غروبيًا على أن تستأنف بعد العصر خارج الرياض. حماس ونشاط وقال عبدالله خياط -رحمه الله-: خرج الأمراء إلى غار المعذر قبل الظهر، وخرجت هيئة التدريس بدعوة من رئيس الخاصة الملكية قبل العصر، كما وصل ركب المؤسس -رحمه الله- قبل العصر أيضًا، وبعد الأذان تقدم الملك عبدالعزيز وأم المصلين، ثم أخذ مكانه من المجلس واجتمع حوله الأمراء ورجال الحاشية، وقصدت هيئة المدرسة الذهاب إلى إحدى الخيام فاستدعاها وأجلسها عن يمينه، ثم أخذ يُحدِّث الحاضرين عن القرآن وأهميته عند المسلمين وأهمية التمسك به، وأقبل بعد ذلك الأمير فيصل -الملك فيما بعد- واستأذن في بدء العرضة فانتصب الأمراء ووقفوا صفوفًا على شكل دائرة، وبدأت العرضة على صوت الطبل، واستمرت في حماس ونشاط بارز حتى الساعة الحادية عشرة غروبياً، ساد المجلس الصمت بعد الفراغ من العرضة فالتفت المؤسس إلى المدرس الأول وأمره أن يقرأ شيئًا من القرآن ليكون الختام، فقرأ فترة ليست طويلة إذ حضر العشاء ومُدَّت موائد الطعام، فتهيأت هيئة المدرسة للانصراف فلم يسمح لها الملك عبدالعزيز بل أدنى مجلسها منه وجعلها على مائدته. دون انقطاع كانت مدرسة الأمراء تنتقل مع تنقل الملك عبدالعزيز -رحمه الله- خارج الرياض قصدًا لاستمرار الدراسة وعدم الانقطاع وكان عبدالله خياط -رحمه الله- هو مدير المدرسة والمدرس الأول فيها، وكل ما من شأنه ذا أهمية في المدرسة يذكره ولا يهمله، وكذلك صديقه المدرس أحمد الكاظمي، فقد وصف شخصيتنا مخيم الملك المؤسس، وكان هذه المرة في رحاب روضة خريم، وكانت المدرسة أقيمت في خيام، وكانت هيئة المدرسة تتشرف بلقاء الملك عبدالعزيز، وهكذا استمر سير المدرسة في الرياض وخارجه بدون انقطاع طوال هذه السنوات، ولقد أرّخ شخصيتنا في كل عام سير مدرسة الأمراء، وما يقع فيها من أخبار وأحداث وزيارات، ولقد قام بهذه المدرسة هو وزملائه أعظم قيام تعليمي وتربوي وثقافي من 1356ه حتى عام 1373ه، وهو يتحدث عن آثار هذه المدرسة بعنوان التحدث بنعمة الله، ذاكراً أصحاب السمو الملكي الأمراء الذين ختموا القرآن الكريم كاملاً على يديه، وهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-، وصاحب السمو الملكي الأمير عبدالرحمن بن عبدالعزيز -رحمه الله-، وصاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبدالعزيز -رحمه الله-، وصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز -رحمه الله-، وصاحب السمو الملكي الأمير تركي بن عبدالعزيز -رحمه الله-، وصاحب السمو الملكي الأمير نواف بن عبدالعزيز -رحمه الله-، وصاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبدالعزيز -رحمه الله-، وصاحب السمو الملكي الأمير سطام بن عبدالعزيز -رحمه الله-، وصاحب السمو الملكي الأمير عبدالمجيد بن عبدالعزيز -رحمه الله-، وصاحب السمو الملكي الأمير هذلول بن عبدالعزيز -رحمه الله-، وصاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز. تذاع يومياً وبعد الرجوع إلى مكة والاستقرار بها عُيّن عبدالله خياط -رحمه الله- في المسجد الحرام إمامًا وخطيبًا، وعيّن كذلك مستشارًا للتعليم، ثم عيّن مديرًا لكلية الشريعة، ثم كلف بالإشراف على إدارة التعليم، ثم عين رئيسًا للجامعة الإسلامية فاعتذر عن هذا المنصب، وعين عضوًا في هيئة كبار العلماء، وكان عضوًا في عدة لجان علمية، وقد تقاعد عام 1391ه من العمل الحكومي وله مؤلفات بلغت ستة وعشرين مؤلفًا في التفسير والعقيدة والثقافة الإسلامية، توفي -رحمه الله- في السابع من شهر شعبان 1415ه، وخلّد اسمه وذكره بهذه التلاوة التي تذاع يوميًا في إذاعة القرآن الكريم، والذي امتنع عن تسلم المكافأة لقاء تلاوته المصحف كاملاً وهو مبلغ عشرة آلاف ريال، وهذا المبلغ له قدره عام 1389ه، ونرجو من الله تعالى العلي القدير أن يتقبل منه هذه التلاوة وأن تكون صدقة جارية له. عبدالله خياط في إحدى الندوات عبدالله بن عبدالغني خياط -رحمه الله عبدالله خياط في وسط الصورة وفي أقصى اليسار صديقه أحمد الكاظمي عبدالله خياط في أيام الشباب أحد مؤلفات الشيخ عبدالله خياط إعداد- صلاح الزامل