تشهد السوق العقارية في المملكة العربية السعودية حالة من التحوّل العميق، وسط جدل واسع حول ممارسات التسويق المكثفة للمطورين العقاريين، في مقابل تدخّلات تنظيمية تهدف إلى استعادة التوازن، فبينما تمتلئ المدن بالإعلانات العقارية عبر الطرق ووسائل التواصل والرسائل النصية، يكشف الواقع عن سوق تعاني من ركود تدريجي وتراجع في القدرة الشرائية، ما استدعى تحركًا إصلاحيًا على مستويات عليا. خلال الأعوام القليلة الماضية، شهد القطاع السكني طفرة في الأسعار نتيجة دعم برامج التمويل الحكومية، لا سيما "سكني" و"التمويل المدعوم"، ما شجع المواطنين على التملك خشية الارتفاع المستقبلي للأسعار، إلا أن هذه الطفرة لم تدم طويلًا، فمع ارتفاع الفائدة وتشديد البنوك لشروط الإقراض، تراجعت وتيرة الشراء وتأجلت قرارات التملك، خاصة لدى الأسر ذات الدخل المتوسط. لمواجهة تكدّس الوحدات السكنية غير المباعة، لجأ عدد من شركات التطوير إلى حملات تسويق متصاعدة، تجاوزت التخفيضات وتسهيلات الدفع إلى اعتماد خطاب عاطفي لإقناع المشترين بأن "الفرصة لن تتكرر"، إلا أن هذه الأساليب، بحسب خبراء السوق، ساهمت في خلق صورة غير دقيقة عن الواقع العقاري، ورسخت توقعات مضللة لدى الجمهور. 681 مليار ريال.. مؤشر الاقتراض غير المدروس إلى ذلك تشير التقديرات الرسمية إلى أن إجمالي التمويل العقاري للأفراد بلغ 681 مليار ريال حتى نهاية الربع الرابع من عام 2024، ما يعكس مستوى غير مسبوق من الاعتماد على القروض في عمليات الشراء، هذا الاندفاع، وفق مختصين، لم يُبنَ على خطط مالية واضحة، بل على حملات تسويقية مكثفة غذّت المخاوف من فوات الفرص. اتخذت المملكة، بقيادة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، خطوات حاسمة لإعادة التوازن إلى القطاع، شملت توزيع الأراضي المجانية ومراجعة آليات التسعير، إلى جانب فرض رقابة صارمة على الإعلانات والممارسات التسويقية، هذه التدخلات حظيت بإشادة واسعة، ووصفت بأنها نقطة تحول في تاريخ القطاع العقاري السعودي. في مقابل ذلك، أبدت البنوك التجارية تحفظًا متزايدًا في منح التمويلات الجديدة، بعد أن واجهت نسب تعثر مرتفعة وضغوطًا تنظيمية للحد من الممارسات السابقة، وهذا التحوّل دفع العديد من المواطنين إلى إعادة النظر في قرار التملك، خاصة في ظل التزامات شهرية تثقل كاهل الميزانيات الأسرية. أمام هذا المشهد، بدأت الأسر السعودية بإعادة تقييم أولوياتها، حيث لم يعد التملك خيارًا تلقائيًا، بل أصبح يخضع لمقارنة دقيقة مع خيار الإيجار، خصوصًا في المدن ذات التكاليف المعيشية المرتفعة، ويشير هذا التغير في السلوك المالي إلى وعي متزايد لدى المواطنين بضرورة اتخاذ قرارات استثمارية مبنية على القدرة الشرائية الفعلية، وليس على المخاوف العاطفية. ما تشهده السوق العقارية اليوم ليس ركودًا بمعناه السلبي، بل هو تصحيح بنيوي يضع الأسس لسوق أكثر عدالة وشفافية، ومع استمرار المبادرات الحكومية وتراجع الاعتماد على التمويل غير المدروس، يُتوقع أن تستقر الأسعار تدريجيًا وتُبنى سوق عقارية تستجيب للطلب الحقيقي، لا للمضاربات. وحول ذلك وصف الدكتور محمد مكني أستاذ المالية والاستثمار بجامعة الإمام محمد بن سعود ان الإجراءات العقارية التي وجه بها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أخيراً، بأنها تاريخية، وأنقذت القطاع والمواطن من الارتفاع الجنوني لأسعار العقارات، بسبب ارتجالية التسويق العقاري، وما تضمنه من شائعات أثارت الخوف والتوجس في نفس كل مشتري ودفعته للاقتراض العشوائي بدون تخطيط ووعي. وقال "خلال السنوات الخمس الأخيرة ارتفعت نسبة القروض العقارية للأفراد بشكل ملحوظ ومارس مسوقون عقاريون أساليب جذب دفعت الأفراد للاقتراض ودفعه إلى شراء عقار في أسرع وقت بحجة أن الأسعار في ازدياد، الأمر الذي جعل المواطنين يلجؤون إلى التمويل العقاري بشكل غير مخطط له، حيث وصلت قيمته للأفراد حتى نهاية العام الماضي 680 مليار ريال، وهو رقم مرتفع للغاية، ويكشف عن وجود إشكالية حقيقية شهدها القطاع العقاري بالمملكة، وخاصة في العاصمة الرياض، كما حققت البنوك التجارية خلال العامين 2023 و2024 أرباحاً تاريخيةً من خلال المحفظة التمويلية. وأشاد مكني بالقرارات والاجراءات التي استهدفت القطاع العقاري، وقال إنها تهدف لضبط الأسواق، ومعالجة تحديات الأسعار، وتداول المنتجات العقارية. وأضاف هذه الإجراءات ساهمت في الوقت نفسه في تعزيز الوعي لدى الأفراد، الذي أدرك حقيقة الدور المطلوب منه عند الرغبة للشراء بعد فترة من العشوائية التي أسفرت عن ارتفاع مخيف في أسعار المنتجات العقارية، وهو ما لم يرض الدولة، ما دفعها إلى التدخل السريع، وفرض قرارات وإجراءات جديدة لمعالجة الأمر، وهذا يؤكد أهمية القطاع العقاري وحرص الدولة لكبح التضخم في أسعار العقارات، وأعتقد اليوم أصبح لدى المشتري وعي كاف عند شراء المنتجات العقارية وعدم الاندفاع والشراء بالأسعار المتضخمة. وتوقع مكني زيادة وعي المواطن خلال السنوات المقبلة بشكل أكبر، والتخطيط وفق القدرة الشرائية التي يمتلكها، وبالتالي، ستكون لديه أولويات، تتقدمها أساسيات الحياة من مأكل ومشرب وسيارة، أما السكن، فلن يكون من الأولويات، ومن الممكن أن يكتفي بالإيجارات، ويتجسد هذا المشهد في المدن الرئيسة، مشيراً إلى أن عدداً ممن اشتروه وحدات سكنية بالاقتراض يواجهون استقطاعاً يصل لنحو 60 % من دخولهم، وهي نسبة كبيرة تؤثر على معيشة الفرد وأسرته، وتأتي على حساب بنود أخرى مهمة مثل الترفيه وخلافه. واختتم الدكتور مكني تصريحه بأن الإجراءات العقارية ومبادرات سمو ولي العهد، ستواصل تأثيرها الإيجابي في الضغط على أسعار الأراضي، وزيادة تداولها، وبالتالي خفض أسعارها، وقال "هذا الأمر سينعكس على أسعار المنتجات العقارية الأخرى، خاصة أن هذه الإجراءات حددت أسعار الأراضي، وزادت من وتيرة تطويرها وطرحها للبيع، وهذا كفيل بمواصلة تراجع الأسعار مستقبلا". الدكتور محمد مكني