ما نحتاجه اليوم هو تربية نقدية رقمية، تُعلّم الجمهور كيف يمارس دوره الرقابي والنقدي بوعي، وكيف يساهم في إنتاج خطاب مسؤول، لا مجرد تفاعل لحظي. نحتاج إلى أن نُرسخ في الأذهان أن النقد ليس معاداة، ولا إقصاء، ولا تهشيم، بل هو فعل بناء، وضرورة معرفية، وشرط أساسي لتقدم أي مجتمع.. في عالم يتغير بوتيرة متسارعة، يتبدل دور الإعلام ووظائفه بتغير البنية الاجتماعية والثقافية والتقنية للمجتمع. ولعل من أبرز هذه التحولات ما طرأ على الوظيفة النقدية لوسائل الإعلام، تلك الوظيفة التي شكّلت عبر العقود ركيزة أساسية في تشكيل الوعي، ومساءلة السلطة، وتعزيز الحوار العام، وتقويم الانحرافات في مختلف الحقول: السياسية، الاقتصادية، الثقافية، الرياضية، وحتى الاجتماعية. غير أن هذه الوظيفة لم تعد حكرًا على المؤسسات الإعلامية التقليدية، بل غدت اليوم في عهد "الرقمنة الكاملة" جزءًا من الفعل اليومي لملايين الأفراد الذين يشاركون بوعي متفاوت في نقد الواقع عبر وسائط التواصل الاجتماعي. في الماضي، كانت وظيفة النقد منوطة بأقلام صحفية مدربة، ومؤسسات إعلامية تخضع غالبًا لمنظومات تحريرية، ومعايير مهنية، وأحيانًا لضغوط سياسية واقتصادية تحد من سقف حريتها أو تُوجّه خطابها. وكان النقد في الإعلام نخبوياً إلى حد ما، لا يصل إلا عبر قنوات رسمية، ولا يكتبه إلا أصحاب الرأي والمعرفة أو من يسمَح لهم بالبروز في الفضاء العمومي. كانت تلك "أزمنة الوصاية الإعلامية" التي يُقرر فيها الإعلامي ما يستحق أن يُناقش، وما يجب تجاهله، وأي قضية لها "قيمة إخبارية" أو "قابلية نقدية". لكن مع صعود الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، تبددت الحدود بين المرسل والمتلقي، وأُزيحت المؤسسات عن موقعها المركزي في إنتاج الخطاب النقدي. لقد انتقلت الوظيفة النقدية إلى الجمهور ذاته، بكل تنوعه: الجمهور المتعلم والمثقف، والهاوي، والعابر، والساخر، والغاضب، والمندفع، وحتى غير الواعي أحياناً. وأصبح من المألوف اليوم أن نرى التحليلات العميقة، والانتقادات الحادة، والمواقف الجريئة، تصدر عن مغرد أو مستخدم عادي، يتحدث من بيته، وباسمه الحقيقي أو المستعار، ويصل صوته - في لحظة - إلى مئات الآلاف. التحول الذي نحن بصدده ليس مجرد تغيّر في وسائط الاتصال، بل هو تغير فلسفي عميق في مفهوم السلطة نفسها. فالإعلام بوصفه "السلطة الرابعة" كان يُمارس وظيفة رقابية ونقدية على السلطات الثلاث التقليدية، ويقوم بدور الوسيط بين الحاكم والمحكوم. أما اليوم، فقد تفككت هذه الوساطة جزئياً أو كلياً، وأصبحت الجماهير نفسها تشكل "سلطة" قائمة بذاتها، تمارس النقد، وتفرض القضايا على الأجندة العامة، وتحاسب، وتُسقط، وتُعيد الاعتبار، وتشكل الرأي العام في لحظات. إنها "سلطة الجماهير الرقمية" التي لم تعد تنتظر تحليلاً سياسياً على شاشة تلفزيون، أو افتتاحية صحيفة في اليوم التالي، بل تطلق حكمها فوراً، وتعلن موقفها بوسم، أو مقطع، أو صورة، أو تعليق. هذا التحول له أبعاد عميقة. فمن جهة، حرر النقد من احتكار النخب، وأعطى صوتاً لمن لا صوت لهم، ومكّن شرائح واسعة من المشاركة في النقاش العام. ومن جهة أخرى، أدخل الفوضى على مفاهيم الدقة، والحياد، والموضوعية، وجعل الوظيفة النقدية عرضة للانفعالات، والتضليل، وأحياناً للعنف الرمزي أو المعرفي، حين يتحول "النقد" إلى تهجم، أو تحريض، أو تنمر رقمي. تكمن إشكالية التحول إلى "نقد الجماهير" في التفاوت الهائل في مستويات الوعي والثقافة والقدرة التحليلية بين المستخدمين. فليست كل قراءة للواقع نقداً، وليست كل معارضة إصلاحاً، وليست كل إثارة للجدل فعلاً تنويرياً. ومن هنا تبرز الحاجة إلى التمييز بين الخطاب النقدي الواعي الذي يشتغل على تفكيك الظواهر، وربطها بسياقاتها، واقتراح البدائل، وبين الخطاب الانفعالي الذي يكتفي بإدانة سطحية، أو يسقط في فخاخ التعميم والشخصنة والتأجيج. ورغم ذلك، لا يمكن إنكار أن وسائل التواصل قد خلقت بيئة خصبة لتعلّم النقد، ومراكمة الخبرات النقدية، وتبادل وجهات النظر. كما أنها عززت من مبدأ المساءلة الاجتماعية، إذ بات المسؤول، أو النجم، أو رجل الأعمال، أو الوزير، أو اللاعب، عرضة للنقد الشعبي المباشر، مهما كانت حصانته الإعلامية أو مؤسسته النافذة. يُعدّ الوسط الرياضي مثالاً بارزًا على انتقال الوظيفة النقدية إلى الجمهور. فقديماً، كان النقاد الرياضيون هم من يصوغون الخطاب حول أداء الأندية واللاعبين، أما اليوم، فالمشجع نفسه أصبح ناقداً، محللاً، بل وأحياناً صانع قرار غير مباشر من خلال الضغط الجماهيري الرقمي. والشيء ذاته ينطبق على السياسات الاقتصادية، حيث يتم اليوم تقييم القرارات المالية والضريبية بلغة الشارع والوسوم، قبل أن تُنشر تحليلات اقتصادية عميقة حولها. أما في المجال الاجتماعي، فقد أدى هذا التحول إلى خلق نوع جديد من الوعي الجماعي الرقمي، يمكن أن يطلق حملات ضد مظاهر الظلم، أو يُعيد الاعتبار لقضية منسية، أو يفتح ملفات مسكوتاً عنها. لقد تحول المستخدم الرقمي -بفضل أدوات النشر والتفاعل- إلى "فاعل اجتماعي" بمعنى الكلمة، تتجاوز سلطته سلطات المؤسسات أحياناً، ويقود موجات من النقد تُعيد تشكيل السياسات والمواقف. لكن مع كل هذا الحراك، تظل هناك مسؤولية أخلاقية وفكرية تقع على عاتق كل من يمارس النقد، لا سيما في العصر الرقمي حيث تنتشر الكلمة بسرعة، وتؤثر فوراً، ولا تُنسى بسهولة. إن وظيفة النقد ليست مجرد إبداء الرأي، بل هي أداة لبناء الوعي، وتحسين الواقع، وتطوير المجتمعات. ومن يمارسها، ينبغي أن يتحلى بثقافة التحليل، واحترام التعدد، وتجنب الأحكام المطلقة، والقدرة على التفريق بين الوقائع والانطباعات. ما نحتاجه اليوم هو تربية نقدية رقمية، تُعلّم الجمهور كيف يمارس دوره الرقابي والنقدي بوعي، وكيف يساهم في إنتاج خطاب مسؤول، لا مجرد تفاعل لحظي. نحتاج إلى أن نُرسخ في الأذهان أن النقد ليس معاداة، ولا إقصاء، ولا تهشيم، بل هو فعل بناء، وضرورة معرفية، وشرط أساسي لتقدم أي مجتمع. ويبقى القول: لقد انتقلت الوظيفة النقدية من منابر الصحافة إلى شاشات الهواتف، ومن الأقلام المدربة إلى الأصابع المتحمسة، ومن غرف التحرير إلى تعليقات الجمهور. لكن هذه الوظيفة لم تفقد قيمتها، بل زاد عبؤها، واتسع أفقها، وأصبح لزاماً على كل فرد أن يكون ناقداً واعياً لا مجرد معلق أو ناقم. إن مستقبل المجتمعات يتوقف على قدرتها على نقد ذاتها بذكاء، وعلى تعميق ثقافة السؤال، وتوسيع فضاء التفكير. وهنا، يكمن التحدي الأبرز: أن نحول هذا الفضاء المفتوح إلى ساحة حوار ونقد مسؤول، لا إلى ساحة ضجيج وعدمية فكرية.