تتجه الاستثمارات العالمية في مجال النفط والغاز بشكل متزايد نحو الشرق الأوسط، حيث تلعب شركات النفط الوطنية دورا متناميا في قيادة دفة الاستثمار والإنتاج. ومن منظور المنتجين، يمثل تزايد حصة شركات النفط الوطنية في استثمارات الاستكشاف والإنتاج نقطة تحول استراتيجية. وقال الأمين العام لمنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول، أوابك، م. جمال عيسى اللوغاني، بأنه في عام 2015 لم تتجاوز مساهمة شركات النفط الوطنية في الشرق الأوسط 10% من الاستثمارات العالمية، أما اليوم فتتجاوز 20%، وهذا التحول يمنح هذه الشركات القدرة على مواجهة التقلبات إذ تستطيع شركات النفط الوطنية مواصلة الاستثمار حتى في أوقات انخفاض الأسعار وعدم اليقين. وأضاف في نشرة أوابك لشهر مايو، بأن الشركات الوطنية تتميز بالريادة في التكلفة، إذ تدير بعضاً من أقل الأصول تكلفة في العالم، ما يعزز قدرتها التنافسية، وبالتالي تضمن هذه الاستثمارات استمرار الإمدادات، خاصة مع تراجع استثمارات القطاع الخاص في ظل تقلبات السوق. وبالتالي تتصدر شركات النفط الوطنية المشهد كركيزة أمن الطاقة واستقرار الأسواق. وما بين التحول والاستدامة ودورها المحوري في العالم، تواجه شركات النفط الوطنية تحديات وفرصا متزايدة في ظل هذا التحول. فهي مطالبة ليس فقط بالحفاظ على الاستثمارات في النفط والغاز وتحمل الجزء الأكبر من مخاطر الاستثمار لضمان أمن الطاقة، بل هي مطالبة في الوقت نفسه بتسريع الاستثمار في تقنيات خفض الانبعاثات مثل الهيدروجين، والغازات الحيوية، والطاقة الحيوية، واحتجاز الكربون، واستخدامه، وتخزينه. يأتي كل ذلك في ظل تصاعد الدعوات العالمية للتحول الطاقي وتقليص الاعتماد على الوقود الأحفوري. ولا يخفى أن تنفيذ جميع هذه المشاريع يتطلب زيادة كبيرة في الاستثمار. علاوة على أن خفض انبعاثات الميثان الذي ينادي به العالم كأولوية ملحة يتطلب استثمارات أولية كبيرة وتعاونا وثيقا بين السياسات الحكومية والقطاع الخاص. لقد شهدت السنوات العشر الماضية تحولا ملحوظا في رؤية وكالة الطاقة الدولية لاستثمارات النفط والغاز، وهو ما انعكس في تقاريرها السنوية وتوصياتها للسياسات. فقد كانت الوكالة تركز بشكل أساسي على ضرورة تقليص الاعتماد على الوقود الأحفوري وتسريع التحول إلى الطاقة النظيفة، وتوجيه رؤوس الأموال نحو الطاقات المتجددة والكهرباء، إلا أن التطورات الجيوسياسية والاقتصادية الأخيرة دفعت الوكالة إلى تبني رؤية أكثر واقعية، وإلى إعادة تقييم أهمية الاستثمارات في النفط والغاز، خاصة في ضوء قضايا أمن الطاقة والتقلبات السوقية. ففي تقريرها الأخير لعام 2025 تعترف الوكالة بأن تراجع الاستثمارات في النفط للمرة الأولى منذ 2020 ستكون له آثار كبيرة على أمن الطاقة خاصة في ظل تباطؤ بعض مشاريع الطاقة النظيفة أو تأخرها بسبب تحديات التمويل وسلاسل التوريد، وربما للمرة الأولى تطرح تساؤلات حول من سيملأ الفجوة الاستثمارية، وبطبيعة الحال تبرز شركات النفط الوطنية كعادتها في قلب معادلة أمن الطاقة. في النهاية، تبرز شركات النفط الوطنية بشكل عام وفي الدول الأعضاء بشكل خاص كقوى محورية في مشهد الطاقة العالمي الجديد. فهي ليست فقط ضامنة لاستقرار الإمدادات وأمن الطاقة، بل أيضا قادرة على قيادة التحول نحو مستقبل أكثر استدامة إذا ما توفرت لها السياسات الداعمة والشراكات الفعالة، وستظل لاعباً رئيساً في تحقيق التوازن بين أمن الطاقة، والاستدامة، والنمو الاقتصادي. من جانبه قال المهندس تركي حسن حمش خبير بترول استكشاف وإنتاج في إدارة الشؤون الفنية في منظمة أوابك، كشفت افتتاحية هذا العدد عن صعود لافت لشركات النفط الوطنية لتتصدر المشهد الاستثماري، مستفيدة من قدرتها على التكيف مع تقلبات السوق وتحمل المخاطر لضمان أمن الإمدادات. يأتي ذلك في ظل تحديات متزايدة لجذب الاستثمارات نحو قطاع الطاقة المتجددة. في هذا السياق، يشير أحدث تقارير وكالة الطاقة الدولية، المعنون "الاستثمارات في مجال الطاقة 2025"، إلى أن الاستثمار في الطاقة المتجددة لم يعد يعكس فقط جهود خفض الانبعاثات، بل بات يتأثر بشكل كبير بالسياسات الصناعية، واعتبارات أمن الطاقة، والجاذبية التنافسية لحلول الكهرباء من حيث التكلفة. ويهيمن التنين الصيني على هذا المشهد، حيث تستحوذ الصين على نحو ثلث الإنفاق العالمي على الطاقة المتجددة، وهو ما يعادل ضعف ما تنفقه أوروبا، ويقارب إجمالي استثمارات الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي مجتمعين. ولعل أبرز ملامح هذا التحول هو ما أطلقت عليه وكالة الطاقة الدولية اسم "عصر الكهرباء"، حيث تجاوزت استثمارات توليد الكهرباء، وتطوير الشبكات، وحلول التخزين، استثمارات الوقود الأحفوري للمرة الأولى. هذا الارتفاع مدفوع بطلب متزايد من القطاعات الصناعية، وأنظمة التبريد، والمركبات الكهربائية، بالإضافة إلى مراكز البيانات والذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات كبيرة في البنية التحتية، فالاستثمار في شبكات الكهرباء، والذي يبلغ 400 مليار دولار سنويا، ما يزال متأخراً عن وتيرة الاستثمار في التوليد والتخزين. وهنا تؤكد وكالة الطاقة الدولية على ضرورة مضاعفة الاستثمار في الشبكات بحلول أوائل عام 2030 لضمان استمرارية وأمن الإمدادات. وعلى صعيد آخر، يشهد قطاع الغاز الطبيعي المسال موجة توسع غير مسبوقة، فبين عامي 2026 و2028 من المتوقع أن تتضاعف القدرة التصديرية الأمريكية تقريبا بفضل مشاريع ضخمة في الولاياتالمتحدة وقطر وكندا، مما سيضيف مرونة كبيرة للأسواق العالمية. في المقابل، يظل الفحم نقطة خلافية في مشهد الاستثمار العالمي، ففي الوقت الذي تتجه فيه دول نحو التخلي عنه، تواصل كل من الصين والهند إضافة قدرات جديدة. فقد بدأت الصين وحدها بناء نحو 100 جيجاواط من محطات الفحم الجديدة في عام 2024 وهو أعلى مستوى لها منذ عام 2015. وتدفع هذه الصورة الكبيرة للنظر في تحديات التمويل والتفاوت الإقليمي، فعلى الرغم من الطفرة في استثمارات الطاقة المتجددة، لا تزال الفجوات كبيرة بين المناطق. فإفريقيا، التي تضم 20% من سكان العالم، لا تحصل إلا على 2% فقط من الاستثمارات العالمية في الطاقة المتجددة، مع انخفاض تدفق رؤوس الأموال إليها بمقدار الثلث خلال العقد الماضي. ويوضح تقرير وكالة الطاقة الدولية أن التمويل التجاري يشكل حوالي 75% من إجمالي التمويل المتاح لقطاع الطاقة، بينما يلعب التمويل العام المحلي (الاستثمارات الحكومية والحوافز) دوراً مهماً، لكنه شهد تراجعا في دعم الطاقة المتجددة. أما التمويل العام الدولي (مؤسسات التمويل التنموي والصناديق المناخية) فيوفر حوالي 7% من استثمارات الطاقة المتجددة في الأسواق الناشئة (باستثناء الصين). وفي حين يتزايد دور الأسر في الاستثمار بالطاقة الشمسية المنزلية، تركز الشركات المملوكة للدولة بشكل أكبر على استثمارات الوقود الأحفوري، خاصة في الشرق الأوسط والصين والهند. لكن هذه الأنواع من التمويل لا تخلو من نقاط ضعف، فالتمويل التجاري يواجه حساسية كبيرة لظروف السوق وأسعار الفائدة، بينما يتأثر التمويل العام المحلي بتراجع الدعم الحكومي، حيث انخفض من 142 مليار دولار في 2022 إلى 83 مليار دولار في 2024. كما أن هناك حدودا لقدرة الحكومات في الأسواق الناشئة على زيادة التمويل بسبب الضغوط الاقتصادية. وعلى الرغم من أهمية التمويل ٍ العام الدولي، إلا أنه غير كاف لسد الفجوة التمويلية المتزايدة، خاصة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، تضاف إلى ذلك القيود التنظيمية والتأثر بالتوترات الجيوسياسية. يمكن من خلال تقرير وكالة الطاقة الدولية تبين أن الحلقة الأضعف في منظومة التمويل هي الأسواق الناشئة والنامية خارج الصين، هذه الدول لم تستفد سوى من أقل من 10% من نمو استثمارات الطاقة المتجددة منذ عام 2015، وتواجه تحديات كبيرة في جذب التمويل الدولي بسبب مخاطر أسعار الصرف، وضعف الأطر التنظيمية، وارتفاع تكلفة رأس المال. ويرى التقرير كذلك أن الاستثمار في الطاقة المتجددة يمثل فرصة "تريليونية" لتعزيز الابتكار، وخلق الوظائف، وتحقيق التزامات الحكومات بالتحول إلى طاقة نظيفة وميسورة التكلفة وآمنة. إنما ولتلبية متطلباتها من الطاقة، تحتاج الأسواق الناشئة والنامية خارج الصين إلى وصول أكبر للتمويل بأسعار فائدة أكثر ملائمة، مع ضرورة تعبئة رؤوس أموال من القطاع الخاص، خاصة من المصادر الدولية، حيث أن الممولين المحليين والعامين وحدهم لن يكونوا قادرين على تلبية الاحتياجات المستقبلية. ويؤكد التقرير أن متطلبات التمويل المتعلقة بالطاقة قد تصل إلى 6% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي في الأسواق النامية والناشئة بحلول عام 2035 وهو مستوى يصعب تلبيته. فالهند تستثمر أقل من 4.6% من ناتجها المحلي الإجمالي في الطاقة، بينما تعاني إفريقيا من فجوة تمويلية واضحة باستثمار أقل من 1.2% من ناتجها المحلي الإجمالي. وإن التحول الطاقي وما يستلزمه من استثمارات هائلة سيفرض عبئاً تقيلاً جدا على الدول الفقيرة خاصة تلك التي تعاني من ضغوط اقتصادية وديون متراكمة. فارتفاع تكلفة رأس المال في هذه الدول، مقارنة بالدول المتقدمة، يجعلها معتمدة بشكل كبير على التمويل الخارجي، مما يعرضها لتقلبات أسعار الفائدة العالمية وشروط الإقراض الصعبة. م. تركي حمش م. جمال عيسى اللوغاني