الحج والتنظيم الحضاري

التاريخ لا يكتبه القادر فقط، بل يكتبه أيضاً المبدعون المتفردون في الرؤية، والإدارة، والتنظيم. وهذا ما أثبتته المملكة العربية السعودية؛ والتي سطّرت تاريخاً جديداً، وكتبت فصلاً جديداً في كتاب التنظيم الحضاري، عبر إدارتها العظيمة والاستثنائية لموسم حج هذا العام.
هو نجاح استثنائي بكل المعايير، إن كان على المستوى الميداني أو الخدمي أو التنظيمي؛ وهو ما يؤكد أن خلف هذه التجربة المتفردة رؤية واضحة، وعملاً تكاملياً، وإشرافاً مباشراً من أعلى قيادة في الوطن.
ولعل قراءة عابرة على عوامل وأسباب النجاح، وإن بصورة عابرة لا تقف عند كل الأسباب، وإنما ملامسة لأبرز تلك العوامل، ويأتي في مقدمتها حملة "لا حجّ بدون تصريح"، وهي الخطوة التنظيمية الرائعة التي لمسنا أثرها على تلك الشعيرة العظيمة، والتي شكّلت جزءاً محورياً من رؤية شاملة كان الهدف منها تقديم تجربة حج آمنة؛ وهذا ما تبدّى أثره العميق على نجاعة التجربة، الأمر الذي يجلي بواقعية أهمية التنظيم، وأنه إجراء لم يكن رقابياً فحسب، وإنما إجراء هدفه تقديم تجربة حج آمنة، منظمة، وراقية، تحفظ كرامة الحاج، وتمنحه البيئة التي تليق بمقامه الروحي الكبير.
لقد كانت "لا حج بدون تصريح" بوابة الانضباط، ونقطة الانطلاق نحو موسم ناجح قلّ نظيره؛ موسم اتسم بالانسيابية في الحركة، والانضباط في المشهد، والخلو من الفوضى والمخالفات التي طالما شوّهت صورة الشعيرة في بعض المواسم السابقة.
هنا تبرز أحد أهم عوامل النجاح، وهي المنظومة الوطنية المتكاملة من جميع الوزارات: وزارة الداخلية، وزارة الحج والعمرة، وزارة الصحة، الدفاع المدني، الأمن العام، والعديد من الجهات التي أدّت دورها باحترافية ومهنية رفيعة. لم تكن مجرد مشاركة، بل كانت ورشة عمل وطنية مفتوحة، تحركها روح التعاضد، ويجمعها هدف واحد: أن يكون الحج تجربة إيمانية وحضارية في آن واحد.
وها نحن اليوم، أمام تجربة تكتبها المملكة للعالم، ليست فقط في إدارة الحشود، بل في تحويل الشعائر إلى نموذج عالمي للحوكمة والتنظيم والإنسانية.
وبفخر واعتزاز نقول: هذا هو وطننا حين يعمل.. وهذا هو الحج حين يُدار بعقل الدولة وقلب القيادة.