أظهر تقرير رؤية السعودية 2030 لعام 2024 أن أكثر من 93 % من مستهدفات الرؤية قد تحققت، مما يعكس نجاح التحول نحو نموذج تنموي جديد يعتمد على التكامل بين الجهد الحكومي والمشاركة المجتمعية، وفي قلب هذا التحول، برز "الإسناد المجتمعي" كرافعة حيوية، تُعزز دور القطاع غير الربحي وتمكنه من الإسهام الفاعل في بناء مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر. المفهوم المتقدم للإسناد المجتمعي، هو منهج يُعلي من قيمة الشراكة المجتمعية، ويرى في المواطنين، والقطاع غير الربحي، والقطاع الخاص، أطرافًا أصيلة في حل المشكلات التنموية، بحيث لا تقتصر مشاركتهم على الدعم المادي، بل تشمل الأفكار، والموارد البشرية، والمعرفة المحلية، والتجارب الميدانية، ولعل أبرز ما يميزه هو تجذره في الواقع المحلي، وقدرته على تقديم حلول مرنة، نابعة من الناس وإليهم، بخلاف بعض النماذج المركزية التي قد تواجه فجوة في الفهم والمواءمة. ومع بقاء الدولة بوصفها الراعي الأول للتنمية، فقد تبنّت منهجية واضحة تقوم على التمكين عوضًا عن التدخل المباشر، فالحكومة اليوم تُسن السياسات، وتُتيح التمويل، وتبني المنصات، وتضع معايير الحوكمة والشفافية، لكنها في نفس الوقت تدفع باتجاه إسناد التنفيذ إلى شركاء المجتمع – من جمعيات، ومؤسسات أهلية، ومبادرات تطوعية – تُجيد الوصول للناس، وتحقيق الأثر بكفاءة أعلى وتكلفة أقل. ومن الجيد الإشارة هنا، إلى أن الثنائية بين الإسناد الحكومي والإسناد المجتمعي، تُشكِّل معًا معادلة تنموية ذكية تستجيب لتحديات الحاضر، وتواكب تطلعات المستقبل، وتحقق مستهدفات الرؤية في رفع مساهمة القطاع غير الربحي إلى 5 % من الناتج المحلي الإجمالي، وزيادة أعداد المتطوعين، وغيرها من المؤشرات الطموحة. خلال السنوات الماضية، لم يعد يُنظر إلى القطاع غير الربحي على أنه قطاع "خيري تقليدي"، بل وُجِّه ليكون قطاعًا تنمويًا مُحترفًا، يُدار بأدوات الحوكمة، ويقيس أثره بمؤشرات دقيقة، ويشارك في مشاريع البنية التحتية الاجتماعية، وليس فقط في الدعم الطارئ، فيما أتاحت الرؤية عبر "المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي"، حزمة من السياسات والتشريعات التي تُعزز بيئة عمل هذا القطاع، وتُحفز نموه، وتُوجهه نحو الأولويات الوطنية. في هذا الإطار، تُمثل اتفاقية الشراكة بين جمعية ترميم للتنمية بمنطقة مكةالمكرمة مع أحد برامج خدمة المجتمع، بقيمة خمسة وثلاثين مليون ريال، نموذجًا حيًّا لنجاح الإسناد المجتمعي في دعم مشاريع التنمية المكانية والاجتماعية، فالاتفاقية، التي تستهدف تنفيذ عدد من المشاريع التنموية في المنطقة، تُجسد في جوهرها تكاملاً بين المعرفة المحلية التي تمتلكها الجمعية، ما ينعكس مباشرة على تحسين حياة الأسر المستحقة، وتمكينها من الاستقرار والسكن الكريم، وتُبرهن هذه الشراكة، وغيرها من المبادرات المشابهة، على أن الاستثمار في الإنسان والمكان من خلال المجتمع ذاته هو الخيار الأنجع لاستدامة التنمية. أستطيع التأكيد بعد مسيرة مهنية طويلة في القطاع غير الربحي، أن إحدى أعظم مزايا الإسناد المجتمعي، إتاحة تخصيص الموارد بحسب الأولويات المحلية، وتعزيز العدالة التنموية، فضلًا عن كونه مُمكنَا للفئات الأقل تمثيلًا من التعبير عن احتياجاتها، بل والمشاركة في صياغة الحلول، وهذا بدوره يُسهم فعليًا في الوصول إلى "مجتمع حيوي" -كما حددته الرؤية- عبر تحسين جودة الحياة، وتوفير سكن كريم، وخدمات تنموية متكاملة، وصولاً إلى تعزيز رأس المال الاجتماعي، وبناء ثقة الناس في مؤسساتهم. إن المستقبل التنموي للمملكة يقوم على إدراك أن النجاح لا يُمكن أن يتحقق بالإسناد الحكومي فقط، ولا بالإسناد المجتمعي وحده، بل بتكامل ممنهج بينهما، فنحن بحاجة اليوم إلى مزيد من المنصات التي تُيسر هذه الشراكات، ومزيد من النماذج القابلة للقياس والتكرار، ومزيد من المحفزات للجهات المانحة، حتى يصبح العمل المجتمعي خيارًا استراتيجيًا لا رديفًا طارئًا. وبينما تتجه الدولة اليوم نحو مشروعات كبرى تُغير ملامح المدن، لا بد أن يوازى ذلك بتنمية مجتمعية لا تقل طموحًا، قاعدتها الإنسان، وأداتها التكامل، وغايتها الأثر الحقيقي، خاصة أن مشهد الإسناد المجتمعي في بلادنا آخذ في التشكل بوتيرة متسارعة، وعلينا جميعًا أفرادًا، ومؤسسات، وصناع قرار، الإسهام في ترسيخ هذا التحول، ليس كخيار تنموي، بل كأحد المسارات الرئيسة لبناء مستقبل وطننا. *خبير في القطاع غير الربحي الرئيس التنفيذي لجمعية ترميم للتنمية بمنطقة مكة المكرمة