في عملها البحثي والنقدي الأوّل «الهويّة المفقودة والانتماءات المتعدّدة» (دار النهضة العربيّة -2025 ) اختارت الباحثة والأكاديميّة هدى المعدراني السرد الروائي كشكل أدبيّ لدراسته بعيدًا من المناهج النقديّة الداخليّة السائدة والتي تعنى بالنّص وأدواته، متّجهة نحو المناهج الخارجيّة سيّما المنهج الثقافي الذي يعنى بدراسة الخلفيّة الثقافيّة والاجتماعيّة للنّص وكاتبه، والحقّ أنّ الباحثة لم تتماهَ مع المنهجيّة التحليليّة التطبيقيّة بشكل مطلق، بل سعت أن توازن بين البعديْن النظري والتطبيقي، ليكون المتلقّي أمام عمل معرفيّ يفتح المجال لأبحاث تنادي بالتحرّر من الاجراءات النقديّة التي عرفها العالم العربي في أوج القرن العشرين متأثرًا بالحركة الفلسفيّة الغربيّة، ولعلّ ثيمة الهويّة التي درستها المعدراني طالت أيضًا الجانب الاجتماعيّ المسكوت عنه بفعل ما تثيره هذه الثيمة من تأويلات سياسيّة وثقافيّة، ليضعنا البحث أمام الاشكاليّة التالية: كيف ترجمت المنهجيّة الثقافيّة في هذا العمل البحثي؟ وهل من اجراءات اتبعتها الباحثة في عملها النقديّ؟ النماذج والعمل البحثي الثقافي اختارت الباحثة والأكاديميّة هدى المعدراني أربعة نماذج روائيّة للبحث عن الهويّة المفقودة، أو بالأحرى لتعرية هذه الهويّات المفقودة، فبدءًا من مدوّنة «شريد المنازل» (دار الساقي –ط .2 2012) يلاحظ المتلقّي أنّ البحث لا يرتكز على إجراء نصّي أو تقني، فالباحثة لم تتعامل مع السرد على أنّه نسق لغويّ، بل كونه نسق فكري ثقافيّ، وهو ما انعكس بحثًا من خلال اعتماد مراجع تحيط بظروف الرواية (الحرب الاهليّة) وتلاحظ في آن واحد الخلفيّة الاجتماعيّة والثقافيّة للروائي، يحسب للمعدراني تعاملها مع النّص على أنّه مبهم وغير شائع في الوسط الثقافي العربي، وهو سلوك بحثي يستقطب المتلقّي أوّلًا لقراءة المدوّنة والتعرّف إلى ظروفها وللتوغل المعرفي الذي يساهم ثانيًا في إعداد باحث قد يشكل هويّته من خلال المراجع المعتمدة والتي تحيط بالرواية ومناخها. بخلاف رواية شريد المنازل ودراستها، اعتمدت الباحثة في الفصليْن الثاني والرابع على المنحى الفكريّ الذي يحاكي التفكيك من جهة والجانب النفسي من جهة ثانية، خصوصًا حين تطرّقت إلى رواية «سرد في بلاد الدخان» للروائيّة هدى عيد، حيث استهلت دراسة البيئة المكانيّة -وهو ما حرصت على الحفاظ عليه بشكل مباشر وغير مباشر منذ الفصل الأوّل- كمدخل لتحليل الذات وسلوكها ودوافعها، أمّا الفصل الثالث فقد اعتنى بالبعد الدلالي الرابط بين الذات والمجموع من جهة والذات وهواجسها المختلفة من جهة أخرى. نتوسّل من هذا العرض البانورامي الإشارة إلى قدرة المعدراني على التجديد النقديّ من جهة من خلال قاعدة «من كل خيط بطرف» أو «من كل منهج بطرف» فكلّ قراءة أو فقرة نقديّة كانت خليط مناهج تفرز تحررًا منهجيًّا بحثيًا من السائد. ضريبة كلّ هذا السلوك البحثي، هو اتّساع العمل البحثي في النطاق السردي وهو ما قد يجعل المتلقي يشعر باغتراب تجاه المدوّنات التي قد يكون نسي جزءًا من سياقها أو لم يطأ موطنها بعد، إلّا أنّ ذلك لا ينفي الجهد الذي تصبّه الباحثة لتكريس المخزون الثقافي وهو السمة الرئيسة التي يجب الباحث التمتع بها قبل أن يتعرّف إلى المدوّنة أو يحاكيها تحليليًّا. التنصّل من الاجراءات النقديّة اختارت المعدراني المنهج الثقافي الذي يعدّ في الأدبيات البحثيّة السائدة جزءًا من منهج مركب قد يعتمد تمامًا كحال المناهج النفسيّة والتاريخيّة والوصفيّة، وتوسّلت عدم التموضع ضمن اجراءات نقديّة تلزم الباحث بفهمها، وتجلّى ذلك بوضوح وإصرار في الفصلين الأوّل والرابع ما يجعل المتلقّي يشعر وبشكل أوليّ بالعجز عن القيام بكتابة هكذا فصلين، أو بالأحرى يلمس الجهد المبذول الذي يراعي مبادىء العمل البحثي كالتقميش، واختيار المراجع وتأطير العناوين، والخروج من مناخ النّصين نحو العالم القائم على وعي يكتسب ويتبدّل. خطوة هدى المعدراني النقديّة الأولى (من ناحية الإصدارات) تتوسّل أمرين: اللامنهجيّة النقديّة التي تراعي المناهج وتنفي الإجراءات السائدة وتحرّض الباحث على التوسّع نحو الثيمات المسكوت عنها والأزمات الاجتماعيّة الثقافيّة السائدة والمتبدّلة.